1 الدان : في اللغة، مشتق من الدنو بمعنى : الاقتراب، وجاء اسمه على صيغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثي «دنا» مضارعه «يدنو» فهو دان، أي : مقترب «1»، ويؤيد هذه الدلالة اللغوية، أن النصوص الشعرية الأولى التي وردت فيها لفظة «دان» ومشتقاتها «دن» فعل أمر من «دنا» على غير قياس، و»استدن» بمعنى «أدن» هي النصوص «القصائد» الموجودة في ديوان الشاعر المتصوف الشيخ عمر بن عبدالله بن أحمد بامخرمة «884ه 953ه» الذي أرجّح أنه أول من اخترع هذا اللون من الغناء، حيث نشأ وترعرع ونما في أحضان الانشاد والسماع الصوفي، والمطلّع على قصائد بامخرمة يجد أن لفظ «دان» ومشتقاته، إنما يرد للتعبير عن معنى الدنو، بمعنى القرب الذي هو ضد البعد، حيث يترقى حال المتصوفة بالسماع كما شرحه القشيري في رسالته «2» إلى مراتب الهيبة والأنس والغناء والبقاء والغيبة والحضور والصحو والسكر والذوق والشرب والتجلي والمشاهدة إلى ما هنالك من مصطلحاتهم وألفاظهم التي اصطلحوها لأنفسهم، ويقصد بامخرمة بالدنو، القرب إلى الله سبحانه وتعالى والقرب من رسوله «صلى الله عليه وسلم»، وقد يجعل ذلك إلى القرب والدنو من أشياخه في التصوف أو ممن علا شأنه في التصوف سواء أكان ممن سبقه أم ممن هو معاصر له. يقول بامخرمه : «3» طاب يامطربه ذا الحين والليل جوح والنداما دنوا للدان والشوش روح واقبل القس لادنانه يبا اليوم يفتح فارح أرح إلى ساقي الدنان ارح ارح وعدنا الصبح من لا يوصل الصبح لا أصبح لا حصل له منا من نام لانام لا أفلح على أن ذكر الدان في الغناء الصوفي قد أصبح بعد بامخرمة كثير الورود في شعر المتصوفة، وهم كثير، ومراعاة للاختصار نورد هنا نماذج من ذلك لشعراء عرف أنهم من المتصوفة، من هؤلاء الشاعر عبدالرحمن بن مصطفى العيدروس «4» المقبور في مصر «1136ه 1192» إذ يقول : يقول الهاشمي لي خل فتان شبيكي السنا ساجي النواظر مليح القد يخجل قامته البان إذا ما مال أزرى بالشواجر إلى أن يقول : وقينات الهوى بالعود والدان تريح الروح منا والخواطر فظلّينا وبتنا جملة أزمان على الراحات في ممسى وباكر على خمرة صفا مع خمرة ادنان وكأس القرب بين الكل دائر ومنهم الشيخ أبو بكر بن سالم العلوي صاحب عينات «919ه 992ه» إذ يقول : يا أكحل العين حي الدان ليلة سمرنا نكش الدان من مغنى سليما ألف معنى من سنا البرق لي لألأ على طور سينا يوم موسى أقتبس منه ونحنا اصطلينا. ومن ذلك قول الشاعر المتصوف السيد علي بن محمد الحبشي «1259ه 1333ه» المقبور في سيئون : شل بالصوت ياقدري ونسنس على الدان ذكّر القلب ذاك الصفو من سابق ازمان لي مضى بين أحبابي على وادي البان حين داروا على قلبي شريفات لدنان من خمور الهوى ما بين صحبي ولخوان اجتمع شملنا بالحب في ذلك الحان إلى أن يقول : فارقصوا يا أهل ذاك الجمع فالثمر داني فزتم اليوم بالمطلب غدا الكل داني والحجب مزقت والراح والشرب هاني لا تشوفون لا ليلى ولا أم هاني غير ذي بان وجه الحب شلوا المغاني وأطربوا وارقصوا والهموا على كل ثاني وهكذا فلا تخلو قصيدة من قصائد هؤلاء المتصوفة ذكر فيها الدان معاني الدنو والقرب والتشوق إلى اللقاء.. وقد يستغني هؤلاء الشعراء ومنهم بامخرمة بذكر الغناء عن ذكر الدان، لأن الدان أصبح علماً على غنائهم، فكأنهم قد جردوا لفظ الدان بكثرة ذكره في شعرهم الذي تغنوا به بالألحان المختلفة حتى أصبح مجرد ذكر الغناء إنما يدل على الدان، فالدان الصوفي هو إذاً، الأصل الأول لما يسمى اليوم بالدان الحضرمي. ب الدان في الاصطلاح : يطلق اسم الدان ليدل على لون خاص من ألوان الغناء في محافظة حضرموت ، وهو لون تطور عن الدان الصوفي، واتخذ شكلاً اختص به من حيث طرق النظم والمضامين مع احتفاظه ببعض السمات المشتركة التي سنحددها لاحقاً وقد سمي «دانا» لأن المغني عند غنائه يردد هذه اللفظة بأوضاع مختلفة حتى أصبحت كلمة «دان» ميزاناً عروضياً يقطع عليها الشعراء شعرهم عند ترديد المغني لها أثناء البدء بالغناء، مستعيناً معها بما يوازيها من شعر ، وهو بيت يطلقون عليه «الأبو» أي «اب الصوت» ويعنون بالصوت «اللحن» كما جاء في الأغاني لأبي الفرج فمثلاً : اللحن السباعي الذي وضعه الملحن سعيد مبارك مرزوق «1331ه 1391ه 1981م». فإنه وضع له بيتاً ابتداءً هو قوله : ذا فصل حن ياالنوب لخضر خرمان بتسمع حنينك غبته علي في ايات وادي دورت لك في كل بندر لاناقتيلك من يوم غبتنا صواتك رحته عمي لا أسمع ولا شوف فإن المغني عند إرادة الغناء، فإنه يستهل غناءه بترديد لفظ «دان» كالتالي بما يأتلف وتقطيع البيت السابق مع مراعاة الغناء به، فإنه سيردد : يادان دان يادان دانه يادان داني دان دانه دان لدانه دان دانه يادان دان يادان دانه يادان داني دانه لدان يادان دانه يادان داني دانه لدان يادان دانه يادان دانه دان يادان ويعين هذا الترديد الشعراء على النظم ومحاكاة الوزن الشعري، إذ أن النظم هنا لا ضابط له سوى الألحان التي يؤلفها الملحنون بترديد لفظ «دان» كما سبق حتى ينتظم، ثم يضع الملحنون على ذلك اللحن بيتاً شعرياً يكون «أباً» له إذا كانوا ممن ينظمون الشعر وإلا أسرعوا إلى أحد الشعراء ، فأسمعوه اللحن بالدندنة حتى يعيه الشاعر، فينظم على اللحن بيتاً يكون هو «اباً» له لذلك فإذا وردت لفظة «دندن» أو «الدندنة» في الدان، فإنما هي الغناء بالدان لأن الدندنة مشتقة من الدان، وليس الدان مشتق من الدندنة، كما حاول بعضهم اعتقاد ذلك كما جاء في فقه اللغة للثعالبي عند ذكره لأنواع الأصوات وأسمائها، ومعناها عند الثعالبي «أن تسمع من الرجل نغمة ولا تفهم ما يقول، أو أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته لأنه يخفيه» كما جاء في المعاجم المفسرة للدندنة. الغناء بالدان : جاء سلفاً كيف يضع الملحن لحنه، وبعد ذلك فإن الملحن يعرف اللحن في أحد أسمار الدان، إذا كان يجيد الغناء، وإلا فإنه يعرض اللحن على المغني مردداً إياه له حتى يحفظه ويجيد الغناء به، وتسمى هذه الطريقة ب»السقي» إذ يسقي الملحن المغني اللحن، ثم يعرض المغني اللحن في إحدى سمرات الدان مردداً له حتى يعيه الشعراء وهو يراوح في غنائه بين ترديد الدندنة تارة وتارة أخرى يردد «أبا اللحن» وعندها يكون الشعراء قد تهيأ أحدهم وعادة ما يكون الأسن أو الأفضل فيلقي البيت الأول ثم يرد عليه شاعر ثانٍ فثالث وهكذا، وثمة وسيط بين الشعراء والمغني هو الملقن الذي يحفظ البيت عن ظهر قلب أو يدوّنه ثم ينقله إلى المغني شيئاً فشيئاً، أثناء غنائه به، وينبغي أن يكون الملقن ممن تتوافر فيه شروط، منها: 1 أن يكون سريع الحفظ أو كاتباً. 2 أن يكون ملماً بهذا الفن مدركاً لما قد يكون في البيت الشعري من خلل. 3 أن يكون حاضراً بذهنه، مدركاً، للوقت المناسب الذي ينقل فيه أجزاء البيت إلى المغني ومقدار هذه الأجزاء. 4 أن يكون قادراً على أداء الشعر أداءً واضحاً مفهوماً. ويستمر المغني في الغناء حتى ينتهي الفصل، والفصل في الدان يعني، مجموع أبيات الشعراء من بدء الغناء بالصوت «اللحن» حتى يقف المغني، لينتقل الشعراء إلى تغيير حروف الروي، أو لتغيير الموضوع الذي ابتدأوا به إلى موضوع آخر في إطار اللحن الواحد فإذا ملّ الشعراء اللحن ، طلبوا من المغني لحناً آخر تنقلوا فيه من فصل لفصل، ثم لحن ثالث فرابع.. الخ، ويبدأ كل فصل بمثل قولهم في أول فصل : فصل أو ذافصل، أما الفصل الثاني ويليه، فيبدأ بقولهم : خرج فصل ، أو ذافصل والثاني، أو ذا خرج فصل والثاني، أو فصل والثاني ونحو ذلك كقول حداد بن حسن الكاف : فصل نسنس واحكم المغنى واحتكم للدان ولحونه يومنا عاشق ولي معنى منذ الصوت لي مازان مميزات الدان وخصائصه : لكل فن مميزات وخصائص تميزه عن غيره وينفرد بها دونه، وتحفظ هذه الميزات الفن عن الاختلاط بغيره من الفنون والتداخل فيها، حفاظاً عليه من الانطماس ومراعاة لبقائه، والدان أحد هذه الفنون، ومن خصائصه : 1 لا ضابط لألحان الدان وأشعاره إلا الألحان، فهي التي تحدد أوزانه وعدد الأشطر في البيت الشعري، فبعدد المقاطع اللحنية يكون عدد الأشطر الشعرية، انطلاقاً من أولوية الألحان في الدان، لذا تتراوح أوزان الدان غالباً من المثلوث وهو ذو الثلاث الشطرات، فالمربوع والمخموس والمسدوس إلى المسبوع، مع عدم احتساب الشلة «وهي الشطر الذي يردد في كل بيت إذا كان اللحن ثلاثياً أو خماسياً أو سداسياً أو سباعياً». أما إذا كان البيت رباعياً فالشلة هنا هي التخميس ولا تحتسب ولا ضير إذا قيل أن الدان كالموشح في هذه الناحية من حيث أن الألحان هي الضابط لأوزانه، يقول مصطفى الرافعي : « وصناعة الموشح لا ضابط لأوزانه إلا الألحان، فهي موطأة للاختراع بمقدار ما تجرؤ عليه القرائح، ولذلك تعددت فيها الأوزان واختلفت طرق الصنعة» وما أشبه الدان بذلك وهما من هذه الناحية كأنهما شيء واحد. 2 تسمية الألحان باسم الأبيات الأولى «اللبوان» أي الآباء المنظومة لحفظه وانتشاره، فيقال مثلاً، صوت ذات صياح، أو صوت «الحاوي شدد» وهكذا وتبرز قدرة الشاعر في عدد الأبيات التي ينظمها والسرعة في النظم وفهم ما يقصده الآخرون وعدم الخروج عن الفكرة التي يتداولونها. أوزان الدان : جاء سلفاً أنه لا ضابط لأوزان الدان سوى الألحان فهي التي تحدد الوزن وعدد الشطرات، وعليه فإن الدان الحضرمي غالباً ما يأتي على أنواع خمسة هي : 1 المثلوث : وهو اللحن ذو المقاطع الموسيقية الثلاثة، ولذلك فهو ذو الشطرات الشعرية الثلاث ومن ذلك اللحن المثلوث للشاعر الشيخ/أحمد باوزير ،يقول مستور حمادي: وغض الطرف فوق الشاب وكلح للشبك إذا خالفت منه لق لهن بالضرب صك حياة القلب لاقدهن ذمر مثناة لشباك ما بنساك أبداً ياحبيبي ولا بنساك وهو صوت ثلاثي «مثلوث» لعدم احتساب الشلة، وهي : « ولا بنساك أبداً ياحبيبي ولا بنساك» لأنها تتكرر في كل بيت ومن المثلوث قول الشاعر سالم عبدالقادر العيدروس: طاب السمر والغنا يعجب والدان ميزان له مجرى وله مذهب وله جنا يعرفونه يافتى دابين النوب ومن المثلوث قول الشاعر خميس كندي : عيشان شل الدان خل الدان يسري في أعز ساحات في دار بومقطن وترس به إلى ازويات سيئون حنت كلها والقرن حن من صوتك المزموم. والملاحظ هنا أن النماذج الثلاثة من المثلوث السابقة لم تكن بوزن واحد من حيث طول أو قصر الشطر، إذ ليس في ذلك قاعدة تحدد وزناً واحداً لكل نوع ، فالمثلوث قد يأتي على أشكال متنوعة ومثله الأنواع الأخرى، فقد يكون الشطر طويلاً أو قصيراً حتى يصل بعض أشطر الصوت الواحد في بعض الأنواع إلى كلمة أو كلمتين أو ثلاث وربما زاد إلى أكثر من ذلك ، فالمجال في طول الشطر أو قصره متروك لقدرة الملحن في تقسيم مقاطع اللحن. 2 المربوع : وهو ما تكون من أربعة مقاطع موسيقية أو من أربع شطرات دون احتساب التخميس وجد أم لم يوجد.. كقول مستور حمادي : قتيل الدان ما نبغي التجارة من اتجر يغلّق مامعه والدان نسم كل مزور ونسم كم وكم من عيطلي به خشم خنجر ويا حسرتي لاقدنا وسط قبري وغيري يغنون ومن المربوع قول الشاعر حداد الكاف: ذا فصل حي ممساك يا أصغر السيقان خليت خلك في تعب يتبع الأثره وانسيت مابيني وبينك آه ياخاتم سليمان 3 المخموس وهو اللحن ذو المقاطع الموسيقية الخمسة والشطرات الشعرية الخمس.. كقول عائض عبود بلوعل، وهو «أبو الصوت» على لحن سعيد مبارك مرزوق: الجابري شدد صليب أقور صليب ماقد أخذ بالصيت عزيه ناطح جبل والله ما قصر ولا اعتذر لا هاب طياره ولا عسكر يحومون وهو صوت مشهور، غنته رجاء باسودان في أغنيتها «دوب الزمن والقلب يتقطع، من صاحبي نكش علي أصواب مخفيه». ومن المخموس قول سالم عبدالقادر العيدروس: ترنم بصوت الدان غن ياحمد غن وكن شاكر وحامد وكورم إلى اسمعت راعد سحابه ترادف باتلقي برد وإن لقت شعبي تاليتها امحاذفه بالبراريد. 4 المسدوس من المسدوس قول مستور حمادي : غليظ القلب تركنا وخلا النوم عل مني عرفت الشور هذا الشور لا منه ولا مني ولي أيام دور له نشدت العول والغربان وحن يانوب عشبت لك مراعي داخل البستان وقوله «وحن يانوب..» هي الشلة ولا تحتسب. ولمستور حمادي أيضاً على لحن مسدوس لسعيد مرزوق : الدان هو رأسمالي قلبي معا خلقه تميل تمضي علي الليالي دور محطمك ياالدان نسنس على الدان نسنس حتى وهو يصرخ الديك 5 المسبوع كقول مستور حمادي على لحن سعيد مرزوق «ذا فصل حسن..» السابق ذكره : ودعتش الله يا الطويله من طال عمره بايعود سمحا طريقك يا المسافر لا ترجع إلا بالجميلة الهوامش : 1 ورد هذا الرأي في إشارة عابرة في هامش من كتاب الأغاني والرقصات الشعبية في محافظة حضرموت للأستاذ/ جعفر محمد السقاف، وصدره بقوله أن الدان «قد يكون مشتقاً من الدنو بمعنى القرب» إذ أنه يرى أن الدان في أحدث تفسير له مشتق من الدانة بمعنى الجوهرة في الخليج العربي، ومعنى «ليله دانه» كما يقول ليلة مضيئة كالجوهرة، والعلة في رأيه واضحة وثمة آراء أخرى ترى أن الدان مشتق من الدندنة، وسيأتي بيان بطلان ذلك ورأي ثالث يرى أن الدان مشتق من «الددن» أو من «دد» بمعنى اللعب واللهو. 2 الرسالة القشيرية لمؤلفها : أبي القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري ص «166» ط/1 سنة 1359ه 1940م مطبعة مصطفى اليابي الحلبي مصر. 3 ديوان بامخرمة « صورة « مخطوط . ص 85 المخطوطة بتاريخ 1184ه. 4 ولد في مدينة تريم في 9 صفر عام 1136ه، رحل إلى الهند مع أبيه سنة 1151ه ثم عاد إلى تريم 1155ه ثم ارتحل إلى الحجاز، ثم إلى مصر عام 1174ه حيث أقام فيها إلى وفاته، وانتفع به كثير من علماء القاهرة، ودفن بجوار قبة السيدة زينب إلى جانب مسجدها وعلى ضريحه قبة صغيرة. اه باختصار من كتاب: تاريخ الشعراء الحضرميين ج/2 عن ترجمة المذكور. 5 كتاب فقه اللغة لأبي منصور عبدالملك بن محمد الثعالبي د. ط المطبعة العمومية بمصر . ذو الحجة سنة 1318ه ص/134. • مدير ثقافة الوادي