للباحث / توفيق محمد السامعي تثير اللغة اليمنية القديمة وستظل جدلاً واسعاً لدى الدارسين والباحثين، على الرغم من أنها تصنف لغةً للنقوش التي دُونت بها في العصور التليدة للحضارة اليمنية، أي أنها لغة آثار، لغة مندثرة؛ لكن تلك النقوش التي أرّخت لحياة الإنسان اليمني، هي التي حفظت نشاطه، وتاريخه وأمجاده. وحضارته هذه هي التي أوصلت إلينا هذه اللغة، وزاد من بريقها تلك الملامح التي تربطها باللغة العربية الفصحى، لغة القرآن الكريم، وظهور أوجه عديدة للتشابه دلالة وقواعد كما أكدتها بعض النقوش اليمنية والعربية. وجاء القرآن الكريم معززاً لذلك, وما هذا البحث الذي بين أيدينا والموسوم ب “ اللغة اليمنية في القرآن الكريم” للباحث/ توفيق محمد السامعي ما هو إلا شمعة تضيء جانباً مهماً من هذه الملامح المشتركة بين اللغتين. والكتاب صادر عن الهيئة العامة للكتاب صنعاء, الطبعة الأولى, عام 2012م. يقع الكتاب في (238) صفحة من القطع المتوسط. وقد ضمت دفتيه خمسة مباحث يسبقها تقديم بقلم الأستاذ/ مطهر بن علي الإرياني, ثم مقدمة تحتوي على خطة البحث. وألحقها بقائمة المصادر والمراجع. في تقديم الأستاذ/ مطهر الإرياني رأى أن الباحث استطاع أن يربط بين التطور اللغوي والتطور الاجتماعي, كونه اعتمد على أسس علمية وموضوعية, عندما أقدم على الخوض في هذا المجال الهام والشائك؛ لأن تاريخ اليمن وحضارته, وما تحقق له من استقرار في ذلك الزمان الموغل في القدم موضوع شائك ومتنوع بتنوع جبال اليمن, ووديانها, وسهولها, وأضاف: “ إن الباحث اليمني الشاب/ توفيق محمد السامعي المعافري, يخطو بجهده خطوة جريئة في هذا الميدان, بتأليف هذا الكتاب, الذي استطاع من خلاله أن يبرهن على أصالة اللغة اليمنية القديمة, وعراقة نشأتها والعوامل المساعدة التي أدت إلى تطورها وازدهارها “. أمّا في مقدمته فقد سرد الباحث شيئاً من تاريخ اليمن, وحضارتها, وقدرة الإنسان اليمني على خلق حياة زراعية وتجارية مكنته من القيام بأدوار مهمة في ذلك الزمان كما تحدثت عنها النقوش اليمنية. وتناول في المبحث الأول قضايا كثيرة منها: علاقة اللغة اليمنية القديمة باللغة العربية الفصحى, حيث اعتمد في تناوله لتلك العلاقة على أهم مقولات المستشرقين, وحاول أن يبين الموطن الأول للساميين, وذهب إلى القول: بأنه اليمن. مستدلاً على ذلك بتلك الدراسات التي توصلت إلى ذلك الزعم, وكذا الاكتشافات الأثرية والنقوش التي اتجهت من الجنوب إلى شمال شبه الجزيرة العربية. وقد أثار الباحث قضية إنكار عربية اللغة اليمنية ورأى أن أسباباً كثيرة هي التي ساعدت بعض اللغويين على إطلاق تلك المقولات بعدم عربية لغة أهل جنوب شبه الجزيرة العربية ( اليمن ). ومن هذه الأسباب: لجؤ العرب في جمع مادة لغتهم من مناطق البادية شمال شبه الجزيرة العربية, ورفضهم الأخذ من أطراف شبه الجزيرة لمخالطتهم الغير. ومنها تلك المقولات التي أثرت كثيراً في الإحجام عن الأخذ من لغة أهل اليمن قول أبي عمرو بن العلاء: “ ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم كعربيتنا”. ومن الأسباب أيضاً الصراع القبلي بين القحطانية والعدنانية والذي تغلغل أكثر في عهد الدولة الأموية والعباسية, وكانت دوافعه سياسية بحتة, ومنها: عدم الاهتمام باللغة اليمنية القديمة بالبحث والدراسة والتحليل في القديم والحديث. وقد أبان الباحث حال اللغة اليمنية القديمة مع بعض اللغويين والمفسرين, الذين أجبرتهم بعض المفردات لاعتماد اللغة اليمنية القديمة مصدراً من مصادر جمع اللغة, أو لتفسير بعض الألفاظ, ومنهم الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت175 ه) في معجمه ( العين ), وابن فارس في ( مقاييس اللغة ), والفراء في ( البحر المحيط ) وغيرهم كثر. وخلص الباحث في هذا المبحث إلى أن إهمال اللغويين الأخذ عن اللغة اليمنية يعد خطأً جسيماً؛ لأنهم بذلك يكونون قد اغفلوا كثيراً من ألفاظ الحضارة والعمران, والزراعة, والصناعة, وبناء السدود ... إلخ. والذي يحمد للباحث أنه أورد بعض تلك الألفاظ والتي لجأ إليها ابن عباس (رضي الله عنه) لتفسير بعض ألفاظ القرآن الكريم في جدول واضح. وخصص المبحث الثاني لبيان العلاقة بين اللغة اليمنية القديمة وعدد من اللغات المحيطة بها, منها: الكنعانية, والآرامية, والنبطية, والحبشية, ثم أوضح الألفاظ المشتركة بين اللغات السامية القديمة ومنها اليمنية. حيث حلل الباحث بعض المقولات التي تنتقص من اللغة اليمنية تحليلاً تاريخياً, مستدلاً بالنقوش والدراسات التي ناقشت ذلك, وأورد جدولاً لألفاظ مشتركة في اللغات السامية, ومنها اليمنية ومقارنتها باللغة العربية, وتوصل إلى وجود أوجه شبه بين هذه الألفاظ. أما في المبحث الثالث فقد درس فيه الخصائص المشتركة بين اللغة العربية واللغة اليمنية القديمة, وتوصل كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين إلى عدد منها : 1. تساوي عدد حروف الهجاء في كل منهما (29) حرفاً. 2. أول حرف من حروف الهجاء في كل منهما هو حرف الهمزة. 3. عرفت اليمنية القديمة الحركات, كما عرفتها العربية فيما بعد. 4. تشابه الجذور اللغوية بين اللغتين, وظهور مصطلحات لظواهر لغوية متحققة فيهما مثل: الإدغام, الترخيم, التضعيف, الإبدال, التنوين. 5. ظهور علامات إعرابية في اللغتين, مثل النون كونها علامة تثنية. . وفي المبحث الرابع أظهر العلاقة بين اللغة اليمنية القديمة والقرآن الكريم, وأورد جملة من الألفاظ المتشابهة بينهما, أبرز فيها اللفظ باللغة اليمنية, ودلالته, ثم اللفظ باللغة العربية, واللفظ في القرآن الكريم, وأورد عدد مرات تكرار هذه الألفاظ في القرآن الكريم. وهو بهذا العمل الإحصائي لتلك الألفاظ يكون قد قدم دليلاً آخر لتلك العلاقة الوثيقة بين اللغة اليمنية القديمة واللغة العربية الفصحى؛ لأنه أبان عن تطابق تام بين الجذر اللغوي ومعناه مع العربية الفصحى المتطورة, وتطابق بين بعض الجذور والمعنى وكذا في الاشتقاق, وتعدد المعنى نحو المشترك اللفظي, والمترادفات, والأضداد. وناقش في المبحث الخامس قضية السبعة الأحرف في القرآن الكريم, ودلالتها وعلاقتها باللغة اليمنية القديمة واللغات السامية, وناقش فيه آراء المفسرين قديماً وحديثاً, وتوصل إلى أن بيئة القرآن الكريم بيئة فصاحة وبلاغة وتبيان, وهذه البيئة كانت خلاصة لتشكل لغة فصحى, لكن تم الأخذ من لغات شتى لتكوين هذه اللغة الخالصة, وهو ما ذهب إليه علماء اللسانيات في العصر الحاضر الذين قالوا بوجود ألفاظ متعددة في لغة القرآن الكريم من لغات سامية قديمة مثل: الأكادية, والعبرية, والحبشية, واليمنية القديمة, والعربية الأم ( المفترضة ). . وخلص الباحث في نهاية بحثه هذا إلى إطلاق دعوة لإعادة النظر في التفسير على ضوء الدراسات اللغوية للغات السامية. أخيراً هذا الكتاب يسلط الضوء على جزء مهم من تاريخنا وحضارتنا, وهو إضافة نوعية للمكتبة اليمنية والعربية على السواء, بذل فيه الباحث جل جهده دراسة وتحليلاً, وهذا الجهد هو الذي يشفع له أي هفوة, والأمر لله من قبل ومن بعد.