فلتعذرني الأحرف ولتسامحني الورقة البيضاء التي سوف أتركها تقف وحيدة منخذلة بدوني ، ذلك أن الكتابة صارت وجعاً لكاتبها في وطن بدلاً من أن يكافئك ويهديك الحبر والأقلام والورق الناعم الجميل ، يباغتك كل يوم بفجيعة أو كارثة أو يهديك جثة ينذهل لها الروح والعقل معاً.! ..لقد أصبحت ذلاً وخوفاً ونكبة على رأس الكاتب الذي ينام على رغيف الورق ويصحو على كؤوس الحبر الملأى بالبؤس والخواء ..! تكتب ورأسك يضج بالتساؤلات الكثيرة ، وعيونك مشدودة في كل ناحية حولك ربما تلحظ عيناً تراقبك ، وتتابع حركة قلمك المشبوهة ومايُسطّرُ من أشياء! ليس القلم الوحيد الذي يعيش القلق والتوجّع ، بل تشاركه روح ودواخل الكاتب وكل شيء فيه يعيش لحظة الألم والمخاض العسير ..!. إن على الوطن حقٌ في أن يُكرمُ كُتّابهِ ومفكريه ويعترف بهم وبحقهم في الحياة ، لا أن يدع بعضهم يذهب إلى المقابر وآخرين إلى المنافي والأشتات النائية! فهل أوشكت اللحظة وأقتربت في أن تُكّسر الأقلام ، وترّمى المحابر لتغرق بمدادها تراب الوطن وبقاع الخيبة؟ فقد أضحت الأصابع تحترق من الإمساك بالقلم وتحمر أطرافها في مواجهة وتحدٍ لبلورة الرؤى وصياغة الجمل المشرقة الصائبة! ورغم كل شيء لانزال نكتب رغم قسوة العيش ومرارة الحياة وإحساسنا بأننا في وطن يحتاج أن نشفق عليه قبل أن نتأمل أنفسنا وأوجاعنا المتزايدة..! فنكتب بصدق..! نكتب ونكتب..! فالكتابة هي الخلاص من الألم والمرارات الكثيرة. الكتابة هي الشعور ببؤس وشقاء البسطاء ، والدخول إلى أكواخهم ومغاراتهم وتلمّسِ احتياجاتهم ومعرفة حياتهم الشاقة المضنية! وهل سيكتب القلم وفي أعين هؤلاء كثير من الدمع ، وغصة عالقة بحناجرهم لاتذهب عنهم أبداً؟! سينزف كثير من الحبر والدمع المنسكب ، وسيستهلك الكثير من الورق الملتهب بالصدق والأسى والمرارة..! فمثل هؤلاء يجب على الوطن الاعتذار لهم وعن ما سببه لهم من فاقة وعوز وجوع ومرض منذ دهر وعمر من السنين.. الوطن العظيم هو الذي لايكابر ويعترف بأخطائه المرتكبة في حق أبنائه وكُتّابه وعُمّالهِ ومثقفيه وأطفاله وكافة الشعب الطريح المنتهك!. ونحن الممسكون على الجمر والواقفون في الوسط بين وطن باكٍ وقاسٍ وأرواح ميتة بائسة! ننزف كثيراً من الفكر واللحظات الموجعة ،، نقتنص الفكرة المباغتة ونتمسك بها ونسعى جاهدين للخلاص منها بسكبها على الورقة البيضاء التي نتحايل وتتحايل أحياناً علينا لشعورها بالغبن والسواد الكثير! فمنذ وقت ما برحت أرواحنا أن تتأمل بفرح لإصدار ما كتبنا بدمنا وأرواحنا منذ عهد بعيد ، ككتب لترى النور وتغادر الظلمة و الأدراج الحبيسة ، وها نحن الآن لانفكر في ذلك ولانعيره أي اهتمام ، فثمة أشياء أهم من كل ذلك!. كيف نحيا بأمان ونعيش عيشاً كريماً في وطن مثخن الجرح كثير التوجع..؟! لن يُسطرّ القلم شيئاً سوى العذابات والحرائق التي أذابت الروح وتلاشى معها الحبر ، وأحَرقت شظايا التألم بقايا السطور والورق. الحلم بالكتابة ليس عبثاً ، فالعبث أن تكتب ولاتجد لما تكتبه أي صدى! الحلم في أن تكتب لترى وجه وطنك وضيئاً وسامقاً وفوق كل الأوطان. وهو يعطيك ويكافئك بالجوع والمرض والاستدانة كل يوم وآخر.. ولكن يبقى ألم ووهج الكتابة يشتعل ويكبر بداخلك كل يوم ويوم ، وإن حاولتَ أن تدير ظهرك لهُ يأتيك مباغتة وعنوة ، وبدل أن تسكب بالقلم وجعك ، يسكب هو وجعه وارتجافاته وتألماته المفاجئة والمؤلمة! ليس هذا زمن القلم وعصر الكتابة. فمن عاش متاعب الكتابة وحرائقها وخوفها في بلد أكثر أهله لايقرأون ولايعشقون القراءة ، سيدرك أنه حتماً سيموت عطشاً وجوعاً اذا اتكأ على الحرف وبياض الورق وبعض الكلمات العطشى الجائعة ، ولن تُؤكلهُ عيشاً أو رغيفاً حافاً وسيموت دون أن ينظر أحد إليه.! فلماذا إذن..؟ فلماذا أصرُّ على انتهاج الكتابة والإمساك بها وعدم الفكاك والتخلّص من الأحرف والكلمات..؟ ذلك شيء تعيشه الروح الوالهة للحرف ولدفئه وتعبيراته بما تكنه دواخلنا من بؤس وفرح وخلاص وعذاب !. فعقولنا وأرواحنا كابية ومظلومون في وظائفنا ودرجاتنا الوظيفية منذ أعوام طوال ..! إلا أن ذلك لايساوي شيئاً أمام حرف واحد نكتبه بدمنا وبقلم لايفصح إلا بالصدق ولاينطق إلا بأعذب المعاني والكلام.! وتبقى آثار تلك الأحرف على وجوهنا النقية ، والصابرة على كل وقت وزمن.. الباقية على عهد ووجه واحد هو الباقي دائماً اسمه اليمن.