نضع بين يدي مؤتمر الحوار الوطني مجموعة من الأفكار والنصوص نأمل أن يتبناها في الدستور الجديد كضمان لمصلحة العدالة في ربوع اليمن السعيد.. يمن الوحدة والحرية والكرامة الإنسانية ونجملها في فكرتين رئيستين: الأولى، النص دستورياً على أن أساسي استقلال القضاء هو مبدأ الشرعية ومبدأ الفصل بين السلطات مع تعاونها، وبدونهما لا يمكن لأي نظام سياسي أن ينشد العدالة، هما قوام الحكم وصمام أمان للدولة من التشرذم والانقسام وأهمية المبدأين أنهما يحولان بين الظلم والاستبداد ويحققان للشعب – حكاماً ومحكومين – العدالة والمساواة في تطبيق القانون. ومبدأ الشرعية وسيادة القانون بمفهومه العام يعني خضوع الحكام والمحكومين وسلطات الدولة بمختلف مؤسساتها وأجهزتها لحكم القانون.. وخضوع النص الأدنى للنص الأعلى. وبمفهومه الخاص خضوع السلطة القضائية - الإدارة والمحاكم القضائية - لنصوص الشريعة الإسلامية ثم للدستور ثم للتشريع ثم اللائحة ثم لاجتهاد الرأي الصحيح وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية العادلة. ويصطلح البعض على تسميته بمبدأ الشرعية والمشروعية، والبعض بالشرعية الديمقراطية، والبعض بالمشروعية العليا وآخر بالحاكمية الإلهية أو إن الحكم إلا لله. ونحن نفضل تسميته بالشرعية وسيادة الشريعة الإسلامية أو سيادة القانون الإسلامي، للتفرقة بين نظرية الحق الإلهي الذي يدعي الملك أنه يحكم باسم الله مباشرة وبين الحكم الإسلامي الذي يلتزم بشرع الله ومنهجه. فالقانون الوضعي يعتبر الدستور أعلى المراتب والقواعد القانونية ويحصر المبدأ في أمور الدولة دون الأمور الدينية ويستبعد بعض الأعمال من رقابة الشرعية، وهي ما تعرف بنظرية أعمال السيادة، وحق الحاكمين المتربعين على كراسي الحكم في تبديل القانون متى يشاؤون؛ لأن من يملك الإنشاء يملك التغيير، بينما في القانون الإسلامي تعتبر النصوص القرآنية ونصوص السنة النبوية الصريحة التي لا تحتمل تأويلاً فوق الدستور وأعلى القواعد القانونية، كما أنه يدخل في المبدأ كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، فلا مجال لاستبعاد أي عمل من الخضوع للشرعية ورقابتها، فرئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس القضاء ورئيس البرلمان يخضعون للشرعية الإسلامية مثلهم مثل أفراد الشعب سواء بسواء. كما لا تملك أي سلطة مهما علت أن تعدل أحكام الإسلام أو تغيرها وليس لها إلا أن تحكم وتنظم أعمالها ومصالحها وفق نصوص الشريعة الإسلامية ومبادئها الكلية والتفصيلية. والمبدأ الثاني هو مبدأ الفصل بين السلطات مع تعاونها، وهو يعني قيام كل سلطة بوظيفتها أو أعمالها دون التدخل في أعمال السلطة الأخرى، مع وجود رقابة متبادلة وتعاون مشترك للحد من الاستبداد والتسلط والقضاء على الظلم والعدوان، وبالتالي استقرار النظام السياسي الحاكم وعدم الخروج عليه وتحصينه من التقلبات والانقلابات، وهو ما يعرف في النظام الأمريكي بمبدأ المراقبة وتوازن السلطات.. ويتجلى هذا الفصل حتى على مستوى الهيئات القضائية وخاصة في الجوانب الفنية فالمحاكم بمختلف درجاتها، وكذلك الدوائر حرة في استخلاص الرأي الذي يحكم القضية دون تدخلات والمحكمة العليا وإن كان من مهامها توحيد المسيرة القضائية من خلال إرساء المبادئ، إلا أنها لا تستطيع أن تلزم المحاكم الأدنى أو تخضعها في هذا الجانب لتبعية رئاسية فللمحكمة أو للقاضي إذا ما رأى أن وجه الحق في القضية التي أمامه يحكمه مبدأ آخر غير المبدأ الذي أقرته المحكمة العليا حكم به. والفقهان الإسلامي والوضعي الحديثان يصطلحان على تسمية المبدأ بمبدأ الفصل أو التفريق بين السلطات والغالبية بمبدأ الفصل، ونحن نفضل تسميته بمبدأ استقلال السلطات على أساس أن هذا المصطلح يحصر الاستقلال في الوظيفة والعمل ليس في إطار السلطات العامة بل أيضاً في نطاق السلطة الواحدة، فالجمع بين وظيفتين أو عملين مهمين مثل الجمع بين رئاسة مجلس القضاء الأعلى والمحكمة العليا في غالب الأحوال يؤدي إلى مصادرة الحقوق والحريات والظلم والاستبداد لتمسك رئيس المجلس ورئيس المحكمة العليا برأيه هنا وهناك، وهذا ما أثبتته التجربة في النظام القضائي اليمني؛ ولهذا ما قام به المصلحون مؤخراً من الفصل بين مجلس القضاء الأعلى وبين المحكمة العليا هو الطريق الصحيح وأهمية هذا الفصل يظهر في رفع المظالم عن القضاة الذي سيستتبعه رفع المظالم والأثقال عن كاهل المواطن إن شاء الله، فالجهة المختصة مهما تجاوزت حدودها وتعسفت في صلاحياتها فإن الجهة الأخرى تستطيع أن تعيدها إلى جادة الصواب. والمواطن يستطيع أن يرفع دعوى إلى المحكمة المختصة بعدم دستورية أي قانون أو حتى مادة في القانون تخالف الدستور، كما يستطيع أن يرفع دعوى بعدم شرعية أو مشروعية أي قرار أو تصرف مخالف للقانون دون أن يستغرق وقتاً طويلاً، كما كان سابقاً تهدر فيه الأموال والجهود. وبالتالي لا يستطيع المسؤول أن يفرض ضريبة خارج حدود القانون، ولا أن يقفز فوق القوانين في تعيين أو ترقية موظف على حساب موظف آخر إلا للكفاءة بنوعيها العلمية والعملية، ولا نهب أراضي الدولة بحجة الاستثمار ولا الدخول في عقود مشاريع المستثمرين ورجال المال والأعمال بنسبة معينة كأنه شريك بحجة الحماية المزعومة، ولا مجال للتقطع وضرب أبراج الكهرباء واحتراف أعمال الحرابة، فالرقابة المتبادلة والقضاء والأمن كفيلان برد المخالفين ومعاقبة الفاسدين أياً كانت مواقعهم في السلطة أو خارجها. كما لا يستطيع المسئول الفلاني أن يتدخل في أعمال المحاكم لتغييرها أو تبديل الحقائق وتزويرها مقابل ثمن بخس، عند الله جزاؤه نار جهنم.. لا مشاححة في الإصلاح؛ فكل مصطلح أو لفظ ينبع من عقيدة الشعب، وشريعته أولى بالاعتبار، فالتقاء الحكام والمحكومين في مفهوم الشرعية وفي الوسائل التي تحقق لهم مصالحهم من أسباب القضاء على الجريمة والقضاء على الظلم وتحقيق العدالة والاستقرار وتطوير الاقتصاد وزيادة التنمية في البلاد. وتتمثل الفكرة الثانية في النصوص والقواعد القانونية التي يتضمنها دستور اليمن الجديد بشأن السلطة القضائية ككل، يجب أن تكون كاملة غير منقوصة بما يمكنها من أداء أعمالها بحرية تامة واستقلال كامل دون تدخلات من أحد خدمة لقضايا العدالة.. وللفقه مفاهيم متعددة بشأن استقلال القضاء؛ فبعضهم يأخذ بالمفهوم الموسع وهو استقلال القضاء عضوياً وفنياً، والاستقلال العضوي يعني فصل العضو القضائي إدارياً عن السلطتين التنفيذية والتشريعية بحيث يدير القضاء نفسه بنفسه ويدخل في ذلك الاستقلال المالي والاستقلال الفني، ويعنون به استئثار العضو القضائي بالفصل في القضايا دون غيره من سلطات وأجهزة الدولة. ويمد هذا المفهوم إلى ضمانات استقلال القضاء مثل استقلال القضاء عن الخصوم والرأي العام والصحافة ويعدونه عنصراً مكملاً، واستقلال القاضي الشخصي وهو عدم قابلية القضاة وأعضاء النيابة للعزل حتى يحكموا بالعدل لا يخافون تهديداً أو وعيداً. وهو في الأول نسبي؛ لأن السلطة التنفيذية تتدخل عبر وزارة العدل بتعيين القضاة وأعضاء النيابة ولو جزئياً، كما هو الوضع في يمننا الحبيب وكثير من الدول، أما الثاني فهو مطلق لا سلطان على القاضي في قضائه سوى لنصوص الشريعة الإسلامية والقوانين النافذة. والمفهوم الضيق يرى أن المقصود باستقلال القضاء هو الاستقلال الوظيفي أو الفني بحيث تكون المحاكم القضائية العادية والقضاة العاديون أو الطبعيون هم المختصون وحدهم بنظر الخصومات والجرائم دون تدخلات، فلا يجوز إنشاء محاكم استثنائية تسلب المحاكم العادية اختصاصها ولا تعيين قضاة استثنائيين يفصلون في القضايا، وبناء على ذلك يرى أصحاب المفهوم الموسع ضرورة النص دستورياً على أن القضاء سلطة دستورية مستقلة كبقية السلطات، تكون لها ميزانية مالية مستقلة تحقق أغراضها في تحقيق العدالة وتطويرها، وقانون خاص ينظمها ويضبط شؤونها وشؤون أعضائها من حيث التعيين والترقية والنقل والندب والإعارة والتقاعد والاستقالة، إلى غير ذلك، بينما المفهوم الضيق يرى أن لا غضاضة في أن تدير السلطة التنفيذية الجهاز القضائي أو يخضع أعضاؤه لقانون موظفي الدولة أو يكون لهم رواتب مرتفعة تتفق مع مكانته وهيبة القضاء، المهم أن يكون القضاة مستقلين في آرائهم القضائية دون تدخلات من أي جهة مهما كانت أو علت، وبالنسبة للضمانات لا تخلقها النصوص وإنما يخلقها القاضي هي جزء من قضائه، فإذا انهارت انهار قضاؤه. ونحن نرى أن المفهوم الموسع أولى بالاتباع من أجل مصلحة العدالة، وهو ما أخذت به بلادنا وبلدان العالم المتحضر؛ لهذا يجب أن تكون نصوص السلطة القضائية في الدستور الجديد محققة للغاية، مثل زيادة أعضاء مجلس القضاء إلى خمسة عشر عضواً وتحديد سن العضو، وطريقة تعيينه أو انتخابه ومدة بقائه في المجلس، وتوسيع اختصاصاته عدا ما تعلق بمسائل التأديب؛ لأن من مهام المجلس الأصلية تحقيق ضمانات استقلال القضاء وحمايته من الاعتداء والانتهاك، فليس من المعقول أن يكون خصماً وحكماً في نفس الوقت، وهذا ما أخذت به بعض الدول العربية، ومثل تعيين مدة رؤساء المحاكم والدوائر على اختلاف أنواعها ودرجاتها، على أن يعودوا أعضاء عاديين في محاكمهم السابقة إذا كان ميعاد ترقيهم لم يحن بعد، وكذلك الارتقاء ببعض النصوص من المرتبة التشريعية إلى المرتبة الدستورية كضمان لحقوق وحريات الإنسان من الانتهاك والاعتداء مثل عدم ممارسة رجال القضاء النشاط الحزبي والسياسي عملاً، واستقلالهم عن الخصوم وحماية المتقاضين من تعسفات القضاة، ومثل النص على تعيين القضاة وأعضاء النيابة العامة ابتداء وعزلهم انتهاء بقرار جمهوري. وكذلك النص على تبعية النيابة العامة وهيئة التفتيش القضائي لمجلس القضاء الأعلى حتى تؤدي النيابة أعمالها بحرية تامة دون وصاية.. وحتى لا تستخدم هيئة التفتيش أداة قمع سياسي للقضاة وأعضاء النيابة العامة الذين لا يرضى عنهم المتنفذون. أرجو أن أكون قد ساهمت في هذه الأفكار والمقترحات المتواضعة الخاصة بالسلطة القضائية، وأن تؤخذ بعين الاعتبار من قبل مؤتمر الحوار الوطني أو الهيئة المنبثقة منه لصياغة دستور البلاد، وليثق أعضاء المؤتمر الممثلون عن طوائف الشعب أنه لا حق ولا حرية ولا رخاء اقتصادي ولا استثمار ولا تنمية حقيقية في ظل قضاء هزيل تقوده التأثيرات والضغوط أياً كان نوعها لا يستطيع محاسبة الفاسدين والظلمة.. ماذا ننتظر من قضاء لا يستطيع أن يعيد موظفاً إلى عمله أو أرضية مغتصبة لمالكها أو طفلاً مختطفاً لأمه.. ماذا ننتظر من عدالة منهزمة تحكمها الأهواء وليست القوانين إلا أن تفرخ مزيداً من المظالم والظلمة والظالمين.. يأمل الشعب منكم ورجال القضاء منهم أن تكون القواعد القانونية المنظمة للسلطة القضائية في الدستور الجديد معبرة عن استقلالها، ما تحقق بها بإذن الله عدالة حقيقية للجميع غير منقوصة كما ارتضاها لنا ولكم رب العالمين، وهي مسؤولية وأمانة تحملونها على أعناقكم إلى يوم الدين.. والله المستعان..!