… الزمان : 7 يناير 1998م المكان - فرنسا قاعة محكمة الاستئناف في باريس. قام رجل أشيب معدّلاً النظارة على عينيه وهو يقول متوجهاً لقاضيه وللجمهور الحاضر في قاعة المحكمة: «إنني أستاذ جامعي متقاعد، وكاتب ألّفت 54 كتاباً وتُرجمت كتبي إلى 29 لغة وقُدمت عني 22 أطروحة جامعية، وقد قاومت النازية في أثناء الاحتلال، ونُفيت طيلة 33 شهراً في الجزائر، وكنت عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لكنني فُصلت من الحزب عام 1970م؛ لأنني قلت : إن الاتحاد السوفيتي ليس بلداً اشتراكياً، كما عملت 14عاماً كنائب في الجمعية الوطنية (البرلمان) ثم اعتنقت الإسلام”. - فمنْ هذا المتحدث ؟ ولماذا هو في قاعة المحكمة متهماً ؟ وما تهمته؟ - إنه روجيه جارودي - أو رجاء جارودي كما أصبح اسمه بعد إسلامه في عام 1982م، الفيلسوف الفرنسي الشهير - أما بقية الأسئلة فسيجيب عليها هذا المقال. على خطى إبراهيم ولد روجيه جان شارل جارودي بمدينة مرسيليا في فرنسا عام 1913م. وحظي بالدراسة على نفقة الدولة لتفوقه في جميع مراحل التعليم حتى أتمّ الدراسة الجامعية.. حصل على مرتبة أستاذ شرف في الفلسفة عام 1936م، وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون بباريس عام 1953م،عن النظرية المادية في المعرفة، ثم حصل على درجة الدكتوراه الثانية في العلوم عن الحرية عام 1954 من جامعة موسكو. وفاز بميدالية شرف لمقاومته الفاشية الهتلرية بين عامي 1941م و1944م. حيث أُخذ كأسير حرب لفرنسا الفيشية (نسبة لحكومة فيشي التي حكمت فرنسا أثناء الاحتلال النازي لها ) في الجلفةبالجزائر بين 1940م و1942م. كما كان عضواً في مجلس الشيوخ الفرنسي في الفترة من عام 1945م حتى عام 1960م، ورئيساً للجنة الثقافية الوطنية من عام 1946م حتى عام 1958م. أسس المعهد الدولي للحوار بين الحضارات في جنيفسويسرا عام 1973م. وهو عضو في أكاديمية المملكة المغربية، وفي المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن. اعتنق الإسلام في 2 يوليو1982م، وأعلن ذلك بنفسه في المعهد الدولي بجنيف. في عام1987م ذهب بتجربته الدينية ومقاربته الخاصة للإسلام إلى مدينة قرطبة الإسبانية التي أنشأ فيها متحفاً للدراسات والبحوث للتراث الأندلسي ولتجربة التعايش النادرة بين أتباع الديانات السماوية في الأندلس، أرادة منه أن تكون قرطبة كما كانت أيام عهد المسلمين في الأندلس جامعة لكل الأفكار والملل التي أنجبت ابن رشد وابن ميمون وغيرهما. ألّف إضافة الى رسالته الدور التاريخي للحضارة العربية، أربعة وخمسين كتاباً، منها: إنذار إلى الأحياء؛ حوار بين الحضارات؛ كيف صار الإنسان إنساناً؛ الإسلام يسكن مستقبلنا؛ وعود الإسلام؛ القضية الإسرائيلية؛ كشف السياسة الصهيونية؛ محاكمة الصهيونية الإسرائيلية. حاز على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام (1985م) عن كتابيه: “الإسلام يسكن المستقبل” و “ وعود الإسلام” ، علّق على ذلك قائلا “أتيت الإسلام حاملاً بيدي الإنجيل وباليد الأخرى كتاب (رأس المال) لماركس.. وإنني أؤمن بالأديان التوحيدية الثلاثة” فكر ومعارك بدأ رحلته الفكرية من الصفر إلى المسيحية في صورتها البروتستانتية إلى اعتناق تام للماركسية، فلسفة وممارسة إلى مراجعة كاملة للماركسية التي تجمدت في قوالب من صلب منعتها من مسايرة التطور الحضاري إلى اشتراكية التسيير الذاتي إلى الانفتاح والحوار الحضاريين إلى دراسة موضوعية للإسلام واهتمام مطرد به كأيديولوجية تقدم تصوراً متكاملاً ومعقولاً للكون والحياة إلى إيمان تام وعن قناعة بالإسلام. تمثّسل مؤلفاته ثلاث مراحل مهمة من حياته فكتب مثل « الإنسانية والماركسية »، و« أسئلة إلى سارتر»، و«كارل ماركس»، و« من أجل نموذج فرنسي للاشتراكية»، و«فكر هيجل»، و« ما هي الأخلاق الماركسية؟».. تشكل المرحلة الأولى لفكره الماركسي الشيوعي، التي يقول عنها “ إن الماركسية هي معركة من أجل الإنسان وأنها سوف تكون فقيرة إذا كان القديس أوغسطين والقديسة تريزا دافيلا أو باسكال سيصبحون غرباء عنها ». أما المرحلة الثانية من المؤلفات فهي ما يمكن أن نسميها فترة الخروج من القمقم الشيوعي والتمرد على الماركسية ، نموذجها على سبيل المثال كتب عديدة مثل “الحقيقة كلها”، و«البديل»، وكتابه ذائع الصيت “نداء إلى الأحياء”، و«كيف أصبح الإنسان إنسانياً”. المرحلة الثالثة من المؤلفات يمكن أن نسميها المرحلة الإسلامية وأهم معالمها كتب من أمثال “ما يعد به الإسلام؟”، و«الإسلام دين المستقبل»، و«الإسلام وأزمة الغرب»، و« هل نحن بحاجة إلى الله؟”،لأنه يرى أن الإسلام هو النقطة التي يلتقي فيها الإبداع الفني والشعري بالعمل السياسي والإيمان.. لم يكن كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” - الذي نشر عام 1995م - هو أول صدام له مع المنظمات الصهيونية التي شنت حملة ضده في فرنسا والعالم، فبعد مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان أصدر جارودي بياناً 1982م في جريدة لوموند الفرنسية بعنوان: معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان وقد وقع البيان مع جارودي كل من الأب ميشيل لولون والقس ايتان ماتيو. وكان هذا البيان بداية الصدام ، فتحول بعد هذا الموقف من ضيف دائم على المحطات الإذاعية والتلفزيونية وأعمدة الصحف، إلى شخصية قاطعتها الصحف اليومية الفرنسية، فلم تنشر أي موضوع له، حيث اتهم جارودي بالعنصرية، وغرمته المحكمة الفرنسية- التي أشرنا لها في البداية - في فبراير 1998م مبلغ 240 ألف فرنك فرنسي ، بعد أن نشر كتاب الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل عام 1995م ،وقد نفي جارودي فيه المزاعم الصهيونية التي ادعت تعرض اليهود للإبادة الجماعية في أوروبا قبل منتصف القرن العشرين. وقد أثارت محاكمة جارودي ضجة واسعة لأنها كانت المرة الأولى التي تنتهك فيها حرية التعبير في فرنسا منذ اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789م. وقد دافع عن تهمة معاداته للسامية بقوله “ اليهودية دين أحترمه ولكن الصهيونية إيديولوجيا أحاربها...”. العزلة لم تهدأ العاصفة بعد تلك المحاكمة فقد شنت الآلة الإعلامية الفرنسية ضده حملة لا سابق لها ضد مفكر فرنسي ، فلقد مثلت هذه المحاكمة في نظر الكثيرين منعرجاً في الحياة الفكرية والسياسية الفرنسية أصبح فيها لسلاح “معاداة السامية” معنى حقيقي وقانوني وردعي، وأسدل الستار بعدها وللأبد في الإعلام الفرنسي وفي المنتديات الفكرية والسياسية على شخصية “روجيه جارودي” فقد دفن الرجل على حد تعبير صديقه الأب “ميشال ليلونج” وتخلى عنه كل المقربين منه وانعزل في شقة قاصية في ضواحي باريس وربما حتى وفاته. لا شك أنه ليس هناك من المفكرين والسياسيين الفرنسيين من يشك في قيمة “روجيه جارودي” كمفكر وسياسي ومناضل، غير أن السؤال الحائر الذي ظل يراود النخب الفرنسية هو : كيف اختار هذا الفيلسوف أن ينبذ كل الميراث الثقافي والفكري الغربي ليعتنق الإسلام؟! يقول جارودي في مقدمة كتابه “حوار بين الحضارات”: “في كل مرحلة من هذه المسيرة حول العالم قرأت كتب الإنسان المقدسة للزراديتشيين في إيران وملحمة جلجامش عن الخليج العربي وملحمة رامانايا في دلهي.. وقرأت القرآن مثلما قرأت التوراة. ومن هذه الأنوار الماضية كان أناسي عصرنا يمتحنون معنى وجودهم وترتدي وجهها الإنساني” وفاته بعد هذه الرحلة الشائكة في البحث عن الحقيقة والدفاع عنها ضد كل الأصوليات المعاصرة ، توفي الفيلسوف روجيه جارودي يوم الأربعاء 13 يونيو 2012م - رحمه الله تعالى.