رحل عن عالمنا الاسبوع الماضي الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي أو رجاء جارودي كما اصبح اسمه بعد اسلامه في عام 1982م بعد حياة حافلة من المراجعة لكل فكر أعتنقه ثم جادله ، فقد بدأ رحلته الفكرية من الصفر (فوالداه كانا كافرين) إلى المسيحية في صورتها البروتستانتية إلى اعتناق تام للماركسية فلسفة وممارسة إلى مراجعة كاملة للماركسية التي تجمدت في قوالب من صلب منعتها من مسايرة التطور الحضاري إلى اشتراكية التسيير الذاتي إلى الانفتاح والحوار الحضاريين إلى دراسة موضوعية للإسلام واهتمام مطرد به كأيديولوجية تقدم تصورا متكاملا ومعقولا للكون والحياة إلى ايمان تام وعن قناعة بالاسلام .. خلال هذه الرحلة الشائكة كانت حياة الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي في البحث عن الحقيقة ويلخصها الرجل أثناء المحاكمة التي أجريت له في عام 1990 بقوله في أول أيام المحاكمة متوجها لقاضيه وللجمهور الحاضر في قاعة المحكمة: “إنني أستاذ جامعي متقاعد، وكاتب ألفت 54 كتابا وترجمت كتبي إلى 29 لغة وقدمت عني 22 أطروحة جامعية، وقد قاومت النازية في أثناء الاحتلال، ونفيت طيلة 33 شهرا في الجزائر، وكنت عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لكنني فصلت من الحزب عام 1970م؛ لأنني قلت إن الاتحاد السوفيتي ليس بلدا اشتراكيا، كما عملت 14عاما كنائب في الجمعية الوطنية (البرلمان) ثم اعتنقت الإسلام”. فمن هو روجيه جارودي صاحب كل هذه التقلبات ؟ على خطى ابراهيم ولد روجيه جان شارل جارودي بمدينة مرسيليا بفرنسا عام 1913م. وحظي بالدراسة على نفقة الدولة لتفوقه في جميع مراحل التعليم حتى أتمّ الدراسة الجامعية. حصل على مرتبة أستاذ شرف بالفلسفة عام 1936م، وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون بباريس. وفاز بميدالية شرف لمقاومته الفاشية الهتلرية بين عامي 1941 و1944م. كما كان عضوًا في مجلس الشيوخ الفرنسي في الفترة من عام 1946 حتى عام 1960م، ورئيسًا للجنة الثقافية الوطنية من عام 1946 حتى عام 1958م. أسس المعهد الدولي للحوار بين الحضارات في باريس فرنسا. وهو عضو في أكاديمية المملكة المغربية، وفي المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن. اعتنق الإسلام في شهر رمضان عام 1982م، وأعلن ذلك بنفسه في المؤسسة الثقافية بجنيف. ألّف إضافة لرسالته الدور التاريخي للحضارة العربية، اربعة وخمسين كتاباً، منها: إنذار إلى الأحياء؛ حوار بين الحضارات؛ كيف صار الإنسان إنسانًا؛ الإسلام يسكن مستقبلنا؛ وعود الإسلام؛ القضية الإسرائيلية؛ كشف السياسة الصهيونية؛ محاكمة الصهيونية الإسرائيلية. حاز جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام (1986م) فعلق على ذلك قائلا “ اتيت الإسلام حاملا بيدي الإنجيل وباليد الأخرى كتاب (رأس المال) لماركس.. وإنني أؤمن بالأديان التوحيدية الثلاثة” مراحل حاسمة تمثل مؤلفاته ثلاث مراحل مهمة من حياته فكتب مثل “الإنسانية والماركسية “، و”أسئلة إلى سارتر”، و”كارل ماركس”، و”من أجل نموذج فرنسي للاشتراكية”، و”فكر هيجل”، و”ما هي الأخلاق الماركسية”.. تشكل المرحلة الأولى لفكره الماركسي الشيوعي. أما المرحلة الثانية من المؤلفات فهي ما يمكن أن نسميها فترة الخروج من القمقم الشيوعي والتمرد على الماركسية نموذجها على سبيل المثال كتب عديدة مثل “الحقيقة كلها”، و”البديل”، وكتابه ذائع الصيت “نداء إلى الأحياء”، و”كيف أصبح الإنسان إنسانيا”. المرحلة الثالثة من المؤلفات يمكن أن نسميها المرحلة الإسلامية وأهم معالمها كتب من أمثال “ما يعد به الإسلام”، و”الإسلام دين المستقبل”، و”الإسلام وأزمة الغرب”، و”هل نحن بحاجة إلى الله”، وطبعا كتابه الذي أدى به إلى المحاكمة “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، و”الأصوليات المعاصرة”. حيث اتهم جارودي بالعنصرية، وغرمته محكمة فرنسية 120 ألف فرنك فرنسي في فبراير 1998م، بعد أن نشر كتاب الأساطير المؤسسة لدولة اسرائيل عام 1995م ،وقد نفى جارودي في كتابه المزاعم الصهيونية التي ادعت تعرض اليهود للإبادة الجماعية في أوروبا قبل منتصف القرن العشرين. وقد أثارت محاكمة جارودي ضجة واسعة لأنها كانت المرة الأولى التي تنتهك فيها حرية التعبير في فرنسا منذ اندلاع الثورة الفرنسية (1789م). وقد دافع عن تهمة معاداته للسامية بقول “ اليهودية دين أحترمه ولكن الصهيونية إيديولوجيا أحاربها...”. العزلة لم تهدأ العاصفة بعد تلك الحاكمة فقد شنت الآلة الإعلامية الفرنسية ضده حملة لا سابق لها ضد مفكر فرنسي ، فلقد مثلت هذه المحاكمة في نظر الكثيرين منعرجًا في الحياة الفكرية والسياسية الفرنسية أصبح فيها لسلاح “معاداة السامية” معنى حقيقي وقانوني وردعي، وأسدل الستار بعدها وللأبد في الإعلام الفرنسي وفي المنتديات الفكرية والسياسية على شخصية”روجيه جارودي” فقد دفن الرجل حيًّا على حد تعبير صديقه الأب “ميشال ليلونج” وتخلى عنه كل المقربين منه وانعزل في شقة قاصية في ضواحي باريس وربما حتى وفاته. لا شك أنه ليس هناك من المفكرين والسياسيين الفرنسيين من يشك في قيمة “روجيه جارودي” كمفكر وسياسي ومناضل، غير أن السؤال الحائر الذي ظل يراود النخب الفرنسية هو كيف اختار هذا الفيلسوف أن ينبذ كل الميراث الثقافي والفكري الغربي ليعتنق الإسلام؟! يقول جارودي في مقدمة كتابه “حوار بين الحضارات”: “في كل مرحلة من هذه المسيرة حول العالم قرأت كتب الإنسان المقدسة(زاندافستا) الزراديتشيين في إيران وملحمة جلجامش عن الخليج العربي وملحمة رامانايا في دلهي.. وقرأت القرآن مثلما قرأت التوراة. ومن هذه الأنوار الماضية كان أناسي عصرنا يمتحنون معنى وجودهم وترتدي وجهها الإنساني”