كمال حيدره “الإقليمين” وإعادة إنتاج الأزمة الوطنية قد لا تكون رؤية الفيدرالية المقدمة على أساس ستة أقاليم رؤية قائمة على فروض سليمة، وربما تكون أيضاً آتية من خلفية تستبطن المكايدة السياسية والوقوف ضد مشروع الاقليمين، المقدم من “الاشتراكي”، لتخوفات، مشروعة، من أن يؤدي مشروع الاقليمين الى الانفصال. قد تحمل هذه الرؤية الكثير من العيوب، ولكنها ليست أكثر سوءاً من رفيقتها (فئة إقليمين) التي يتم تداولها وكأنها نص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، ويتم تسويقها على أنها “الفرصة الأخيرة” لحل الأزمة الوطنية، مع أنها في حقيقة الأمر تعيد الأزمة الى النقطة التي انطلقت منها، وتعمل على إعادة إنتاج ميكانيزمات الصراع بأسس لا وطنية. إذا ما تفحصنا الأزمة اليمنية المستفحلة سنجد أن جذورها تقع في إطار الصراع الاجتماعي القائم على أساس الفرز المناطقي الجهوي، والتاريخ السياسي للشطرين ،قبل الوحدة، يؤكد ذلك بقوة، إذ إنه مهما حاول البعض إظهار تلك الصراعات، التي أستمرت من لحظة قيام الشطرين الى لحظة الاندماج، على أنها كانت صراعاً سياسياً بين القوى التقدمية والرجعية إلا أن الشواهد الأكثر وضوحاً تفيد بأنها كانت صراعاً فئوياً مناطقياً. في الشمال كانت الدولة ،كما يؤكد الأستاذ عبدالباري طاهر، قد نتجت عن تحالف الهاشميين مع حاشد وبكيل ويجمع هذا التحالف إطاراً جغرافياً ومذهبياً واحداً، وتم استبعاد المكون الاجتماعي الواقع خارج هذا الإطار واعتبار أرضه “أرض فتح”، والذي يقابل، بمعايير الدولة الحديثة، انتفاء صفة “المواطنة” عنهم. هذا الوضع كان يفترض أن يتغير بعد قيام ثورة سبتمبر، لكن ذلك لم يحدث لأن ذهنية القوى المنتجة للسلطة في الشمال كانت تقف على الضد من ذلك لأنها لم تستوعب بعد مفاهيم الدولة الحديثة وتعتقد أن الدولة هي “السلطة”، وكان هذا هو الأساس الذي انطلق منه الصراع السياسي، وتفجر في أغسطس 68 على أساس مناطقي بين “القوى التقدمية” التي تنتمي في معظمها الى المناطق الوسطى وبين “القوى التقليدية” المتحكمة في شمال الشمال والممسكة بالسلطة في الشطر الشمالي بعمومه، والتي استمرت فيما بعد كحرب طويلة تسمى “أحداث المناطق الوسطى” حتى ثمانينيات القرن الماضي. الجنوب أيضاً لم يكن أفضل حالاً، إذ إنه وعلى الرغم من توفر أرضية أفضل للاندماج الاجتماعي، وعلى الرغم من تبني النخبة الحاكمة لشعارات الأممية الماركسية فإن الصراع السياسي اتخذ بعداً مناطقياً تفجر بأبشع صوره في أحداث يناير 86 والتي انقسم فيها المجتمع والسلطة بين معسكري الضالع/لحجوأبين. الآن، وبعد كل ما فعله نظام صالح في البنية الاجتماعية على مستوى الشطرين سابقاً/ الاقليمين قريباً والتي أنتجت أكثر من بؤرة صراع مجتمعي داخل كل حالة، تأتي فكرة الاقليمين لتعيد إنتاج تلك الأزمات متغافلة، عن عمد، كل الإشارات الى ذلك!. يرفض مصممو فيدرالية الاقليمين أي فكرة لفيدرالية من عدة أقاليم بدعوى أن هذا ليس الا تآمراً على وحدة الجنوب، وسعياً من قبل قوى النفوذ (في الشمال) للاستحواذ على ثروات ومقدرات الأقاليم متناسين أن هناك بالفعل حاجة ماسة لقيام فيدرالية من عدة أقاليم تسهم في تخفيض حدة الاحتقان الاجتماعي المسبب لكل صراعات الماضي والتي ستنبعث مجدداً مع عودة محفزاتها. وبعيداً عن أي هواجس مؤامراتية فإن فكرة الإقليمين بالفعل تعد أكبر محفز لنمو صراعات لازالت كامنة في التركيبة الاجتماعية على المستوى الوطني وعلى مستوى الاقليمين، فصراع الوسط وشمال الشمال سيعود مجدداً مضافاً إليه سبب آخر أشد خطراً وهو خطر الطائفية المذهبية، وصراع أبين- الضالع سيعود مجددآ مع تعميق حالة الهوياتية التي اشتغل عليها الحراك في مواجهة مايسميه “الاحتلال اليمني”!!،والتي ستنفجر في وجهه لحظة بناء السلطة في الاقليم الجنوبي على هيئة هويات صغرى متصارعة جنوبياً بعد غياب الخصم الذي كان يوحدها. وسيضاف الى ذلك النزعة الاستقلالية الحضرمية في الجنوب والحراك التهامي والماربي في الشمال وغيرها من الأزمات المجتمعية التي أنتجها غياب مفهوم حديث للدولة قائم على أساس المواطنة والديمقراطية جنوباً وشمالاً. خلاصة القول: هذا ليس حشداً مؤامراتياً لكل العوائق التي تمنع قيام فيدرالية من اقليمين، بل قراءة واقعية لبنية الأزمة المجتمعية التي أنتجها غياب الدولة، وعملت الأنظمة المتعاقبة على تجذيرها، والنخب السياسية على إنكارها، ويستمر البعض في إنكارها جرياً وراء مكاسب سياسية متوهمة. الخلل يكمن في الدولة، وهناك عمق الأزمة الوطنية، وإن كان لابد من الفيدرالية بوصفها آلية حديثة جيدة لإدارة السلطة وتوزيع القوة مجتمعياً، فإنه من المنطقي أن تكون هذه الفيدرالية متطابقة مع خطوط الأزمة بحيث تكون حلاً لا تكريساً لواقع الأزمة الذي يجب أن نبقى داخله!!. ليس مهمآ عدد الأقاليم لكن الإقليمين ليس خياراً جيداً..وستذكرون.