كان بادياً عليه الخوف والتعب , حين سأل زميله بصوت متقطع: هل سنصل؟ بدلاً من أن يطمئنه, رد عليه: هل هذه أول مرة «تتهرب»؟ هز رأسه إيجاباً ستقسم على نفسك، وأنت بالطريق حين ترى العذاب والجوع والعطش والإهانات، أن لا تتهرب مرة ثانية , لكن حين تعود إلى الوطن وأنت بين أسرتك، لا تستطيع توفير الأكل , تعليم أولادك, شراء الدواء , لا تستطيع أن تلبس أولادك ثوباً جديداً في العيد, سترجع عن قسمك وستعيد المغامرة. دفن رأسه بين يديه وركبتيه غارقاً في التفكير قبل أن يواصل المسير. كان عليهم أن يقطعوا عشرات الكيلومترات سيراً على الأقدام ,بعد ذلك سيكونون في قبضة المهرّب الذي سيرصّهم في علبة التونة. يصل المُهرّب بسيارته إلى مكان تجمعهم , ينزل من سيارته ليقوم بإحصاء عددهم. مقابل أن يوصلهم إلى الجنة، ألفين ريال سعودي، هو المبلغ الذي سيأخذه المُهرِّب السعودي من كل واحد, سيأخذ المبلغ حالما يوصلهم إلى الهدف , البعض منهم كان لديه المبلغ وقد وضعه في جيب سرواله الداخلي , والبعض الآخر سيكون عليه أن يتصل بأحد الأصدقاء أو الأقرباء المغتربين ليأتي لدفع المبلغ حال وصولهم.. كان عددهم ثمانية عشر, ثلاثة منهم لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة, وأربعة آخرون فوق الخامسة والأربعين , والبقية شباب , اثنان منهم من الحبشة. تمّ رصّهم في سيارة جيمس كحبات التمر المتلاصقة. في قمرة القيادة كان المهربان أحدهما سعوديا والآخر يمنيا يقود السيارة بسرعة جنونية في الصحراء .اثنتاعشرة ساعة، ستكون رحلة محفوفة بالمخاطر , جوع , عطش , خوف , ومصير مجهول... أرجوك إرفع كتفك قليلاً كي أستطيع التنفس لا أستطيع , عليك أن تتحمل أشعر بعطش شديد, يا الله , ليتني بقيت في بلدي لا فرق ستموت جوعاً , أو ستأتيك رصاصة طائشة وأنت تمشي في الشارع أو نائماً في سطح المنزل يأتي صوت المهرب السعودي: يلعن أبوكم , اسكتوا يلمح المهرب من بعيد دورية عسكرية تطاردهم , فيزيد السائق من سرعة السيارة عابراً أو متأرجحاً فوق كثبان الرمل , تقترب سيارة العسكر , تطلق الرصاص باتجاه السيارة فتصيب أجزاء من السيارة , يصاب الجميع بالذعر، يتلو البعض آيات من القرآن وبعض الأدعية..أحدهم يسترجع شريط الذكريات بلمح البصر: أخوته الجياع, حفل التخرج من الجامعة, طموحه القديم بوظيفة محترمة, أبوه المريض, أمه المكافحة, حبيبته التي كانت أحد أسباب هذه الغربة.. تستمر المطاردة ويستمر إطلاق الرصاص من السيارة العسكرية..هذه المرة كانت الفاجعة، إحدى الرصاصات اخترقت رأس أحد الشباب! أحدهم يحاول أن يخرج يده من تحت جسم الآخر ليتحسس المصاب, بعد عناء نجح في إخراج يده, يتحسس قلب المصاب هل مات؟ لا حول ولا قوة إلا بالله هل تعرفه؟ يسأل أحدهم لا أحد يعرفه منهم , لا يعرفون حتى اسمه. تستمر السيارة باختراق الصحراء وتنجح بالهرب من الدورية العسكرية. تتوقف السيارة , بعد ازدياد الصياح من الجميع، يخرج المهرب من السيارة وهو يكيل اللعن عليهم حاملاً بيده مسدسه، يطلب منهم الخروج من السيارة , طالباً منهم الجلوس على الأرض في سطر واحد. أنت يا أسود , وأنت , إنزلا الميت من السيارة. يقوم الاثنان بتنفيذ الأمر بإنزال الميت من السيارة ويضعانه على الأرض, كان قد فارق الحياة. يطلب المهرب من أحدهم تفتيش الميت, لم يجد في جيبه سوى ورقة عليها رقم تلفون دون اسم ومائة ريال سعودي. يطلب المهرب من الجميع العودة إلى السيارة متحسراً على ضياع كلفة تهريب أحدهم. لكن أحدهم وقف يتوسل من المهرب بإكرام الميت بدلاً من تركه للكلاب والطيور. أيّده الآخرون, يوافق المهرب بعد أن كال عليهم الشتائم بسرعة تنفيذ الدفن.. تم دفنه كالحيوانات في حفرة غير عميقة دون حتى الصلاة عليه.. تواصل السيارة الطريق. وفي كل مرة يتوقف المهرب لينزلهم ليقوم بعدّ فلوسه أقصد بعدّ الركاب , خشية أن يكون أحدهم قد فرّ من السيارة ...