الدكتور محمد عمارة «من مواليد 1360ه/1931م» مر بأطوار متعددة، وألف وكتب في مجالات مختلفة، إلا أن الاتجاه العقلي والفكر المعتزلي طغى على معظم أعماله وإنتاجه الفكري والبحثي فقد حصل الدكتور محمد عمارة على الماجستير عام 1970م وكانت رسالته حول “مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة”، وحصل على الدكتوراه عام 1975م وكانت رسالته حول “نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة”. ومسيرة حياته الفكرية والبحثية غنية وثرية وذات مضامين وأبعاد علمية ومنهجية غاية في العمق والأهمية والمصداقية، فهو واحد من المفكرين والباحثين الجادين والصادقين، وتحولاته الفكرية دليل كبير على ذلك، فقد مر بثلاث مراحل وأطوار، فقد كان في بداية حياته اشتراكياً ماركسياً، ثم هداه الله إلى طريق الإسلام والحق، ولكنه في هذه المرحلة التزم الخط العقلاني والمنهج الاعتزالي، ثم إنه في الفترة الأخيرة وصل إلى حالة من الاعتدال والاتزان والسير وفق المنهج العام لأهل السنة والجماعة والرؤية الوسطية الجامعة.. يقول الدكتور محمد عباس إن محمد عمارة هو واحد من كوكبة لامعة صادقة هداها الله فانتقلت من الفكر الماركسي إلى الإسلام...وكانت هذه الكوكبة هي ألمع وجوه اليسار فأصبحت ألمع وجوه التيار الإسلامي ،ودليلا على أن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام. وعن معالم هذه المدرسة«الوسطية الجامعة» يقول د. عمارة إنها التي تجمع بين عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة فتكوّن موقفاً جديداً مغايراً للقطبين المختلفين ولكن المغايرة ليست تامة، فالعقلانية الإسلامية تجمع بين العقل والنقل، والإيمان الإسلامي يجمع بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة، والوسطية الإسلامية تعني ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي، بل هي منظار للرؤية وبدونه لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام، وكأنها العدسة اللامعة للنظام الإسلامي والفكرية الإسلامية، والفقه الإسلامي وتطبيقاته فقه وسطي يجمع بين الشرعية الثابتة والواقع المتغير أو يجمع بين فقه الأحكام وبين فقه الواقع، ومن هنا فإن الله جعل وسطيتنا إلهيا «جعلناكم أمة وسطا». ويظهر من خلال مؤلفاته اهتمامه بالفكر والتاريخ الإسلامي والتيار المعتزلي والعقلاني، فقد دعا الدكتور عمارة إ لى إحياء تراث المعتزلة باعتبار أنهم طليعة المفكرين المسلمين المستنيرين أصحاب المنهج العقلي وفرسان ميدان الحرية والاختيار، الذين امتدت بصيرتهم كما يقول إلى ما وراء النصوص، مستخدمين العقل والقياس والتأويل، معتبراً أن قوة وصوابية منهج المعتزلة يعود إلى أنهم جعلوا العقل حاكما على النصوص، وأنهم أوجبوا عرض هذه النصوص والمأثورات على العقل، وحول ذلك يقول د. عماره:” إن مقام العقل عند المعتزلة هو صفحه من الصفحات المشرقة في حضارة العرب والمسلمين، وهم يقدمون العقل على جميع الأدلة من كتاب وسنه وإجماع، فالعقل هو أول الأدلة وهو أصلها الذي به يعرف صدقها، وبواسطته يكتسب الكتاب والسنة والإجماع قيمة الدليل وحجيته”. والدكتور عمارة يؤكد بصورة مستمرة على وجوب تقديم العقل على النقل في حال التعارض “إن حدث وبدا أن هناك تعارضا بين ظاهر النص وبرهان العقل وجب تأويل النص دون تعسف بما يتفق مع برهان العقل”، والحق ان هذه المسألة “ تقديم العقل على النقل” هامة وجوهرية لدى المعتزلة والفرق الكلامية والتيارات العقلانية قديماً وحديثاً، وتعتبر من العوامل الجاذبة نحو هذه الاتجاهات والإعجاب بها والانتماء اليها. والاصل أن العقل يتلقى عن الوحي، فقد يرد الشرع بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه، إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سبباً للسعادة، وكون المعاصي سبباً للشقاوة ولكنه لا يقضي باستحالة ذلك، وليس للعقل بعد ثبوت نسبة الخبر أو الحكم إلى الله ورسوله أن يضع ما يجيء به الوحي موضع الشك لخروج ذلك عن اختصاصه، وإخضاع نصوص الوحي لمقررات العقل مبدأ خطر، فإطلاق كلمة العقل يراد الأمر إلى شيء غير واقعي!! يقول الدكتور عبدالمجيد السوسوة في كتابه «العلاقة بين حاكمية الوحي واجتهاد العقل» : “كما أن العقل مفتقر إلى الوحي وملزم بالخضوع له فإن للعقل - في الوقت نفسه – دورا كبيرا في التشريع الإسلامي وهو القيام بمهمة الاجتهاد فهماً لنصوص الوحي واستيعاباً لمعانيه وعلله ومقاصده واستنباطاً لأحكامه وحسن تطبيقها في الواقع، وقد أكد الوحي على مهمة العقل في القيام بالاجتهاد وجاءت نصوص الوحي تدعو الإنسان إلى إعمال عقله والاجتهاد في فهم الوحي. والعقل مفتقر إلى الوحي ليبين له المنهج الذي يسير عليه في الحياة، ولا يستطيع العقل مستقلاً عن الشرع أن يضع منهجاً صحيحاً عادلاً كاملاً منزهاً عن كل خطأ، وأن يقدم معرفة شافية موحدة فلا يعلم حقيقة كل ذلك إلا الله، الذي له الكمال المطلق وقد أنزل شرعا ودينا يتصفان بالكمال والشمول ولكل ما يلزم الإنسان أ و يحتاج إليه من تصور واعتقاد وما ينفعه من عباده وطاعة وما يصلحه من نظام وتشريع. فالعقل كما يقول الدكتور عبدالحميد ابو سليمان في كتابه “أزمة العقل المسلم”: مثله مثل السمع والبصر والفؤاد وكل أولئك كان عنه مسؤولاً، وهو أداة الإدراك والفهم والنظر والتلقي والتميز والموازنة، وهو وسيلة الإنسان لأداء مسؤولية الوجود والفعل في عالم الشهادة والحياة، وهو موجه الإنسان ودافعه ووسيلته إلى إدراك موقعه وغايته في الحياة، وهو موجه الإنسان في طلب عالم الغيب والتلقي عن رسالات الوحي وإدراك فحوى الوحي ووضعه موضع الإرشاد والتوجيه لعمل الإنسان وبناء الحياة ونظمها وإنجازاتها، بما يحقق غاية الوحي ومقاصده وتوجيهاته وأحكامه.