في يوم من الأيام كنا مع الأغلبية حول مسألة النسخ حتى دق ناقوس الخطر وبدأنا نشعر بخطورة هذه الفكرة على النص القرآني ذاته من جهة وعالميته من جهة أخرى, في حينالكل يؤمن بديمومة النص كنص متجاوز لكنه قدخفي عليهم تبعات القول بالنسخ القرآني لبعض أحكامه وما قد يحدثه من شرخ في تاريخ القرآن ومنهجية التعامل معه ,وقد لا يستغرب البعض إلا ونصر حامد أبو زيد يشغب في جدار ذلك اللين ليهدم جدار النص برمته في حين الكل يعزف على وتر النسخ كملمح اجتهادي لا يمكن لمن يتعرض للقرآن تجاوزه فهو أحد أهم شروط الاجتهاد بزعمهم. القول بنسخ القرآن لبعضه افتيات على القرآن شاركت الأكثرية في التصفيق دون توقف إلا القلة, فمنهم في القدم: الشيخ أبو مسلم الأصفهاني وهو أول من نقض هذه الفكرة وقدم تفسيرات رائعة لما يمكن للقوم أن يفهموه تناقضا يستحق نسخ البعض للبعض, وتجدوا الكثير منها متناثرة في تفسير الرازي عن الآيات المنسوخة, أما في الحاضر فقد تكاثر الشعور بسذاجة النسخ وكتبت البحوث والكتب حول تفنيدها.. ويبدأ تاريخ النقد لهذه الفكرة من وقت مبكر حين قام البعض بتسجيل وتقييد حالات النسخ في القرآن الكريم وتفرقهم في تحديد عددها فحين بالغ البعض “محمد بن حزم” ليصل بها إلى 214 آية في حين يحجمها السيوطي في كتابه الإتقان إلى 20 آية فقط , ومن ثمّ يأتي الدكتور مصطفى زيد في رسالة الدكتوراه ليصل بها 6 آيات فقط, ومن ثمّ قام الدكتور طه جابر العلوني بتفنيد دعوى النسخ في هذه الآيات التي خلص إليها أبو زيد في كتابه “نحو موقف قرآني من النسخ”, وقد تناول تلك الآيات بمعرفة وعلم مما يدعونا إلى الإيمان بسذاجة فكرة النسخ وأنها ليست إلا حلقة من حلقات التقليد التي كانت بمثابة الأغلال على عقول القوم مع ضعف حججها ومنطقها. وهذه الآيات التي تناولها العلواني في كتابه هي: آية المتوفى عنها زوجها ,وآية امساك المرأة في البيوت حتى يتوفهن الموت, وآية المصابرة العددية في القتال, وآية الصدقات في مناجاة الرسول , و وآيةقيام الليل في سورة المزمل. أما إذا يراد بالنسخ التعميم والتخصيص فليس هو ما نقصد.. فهو بهذا المعنى جزءا لا يتجزأ من محتوى القرآن الكريم، لكن أن يقصد به إلغاء أحكام آيات قرآنية بآيات أخرى، أو بروايات آحاد.. فهذا مالا يقبله القرآن نفسه نظراً لخلوده وعالميته التي لا يمكن أن نقصر كثير من أحكامه التشريعية على فترة بعينها ،كأن المشكلات التي نبتت منها قضية النسخ قد تبخرت في الجيل الأول . وعند التحقق والبحث عن أصول هذه الفكرة، التي جعلها القوم شرط من شروط التفسير معرفة الناسخ والمنسوخ تجزم أن القوم تاهوا في محيط التأويل والتقول على القرآن بدون علم. فأهم آية يستند عليها القوم لإثبات دعوى النسخ “بمعنى الحذف والإبطال قوله تعالى::”مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)البقرة هذه الآية الكريمة ليست بمعنى الإلغاء كما يتوهم القوم، بل هي بمعنى الإثبات ،وإن قلتم كيف هذا؟ !نجيب عليكم : بأن آيات النسخ في القرآن الكريم تدل على الإثبات وليس الإلغاء فانظروا إلى هذه الآيات الكريمة: الآية الأولى: “هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)” , والنسخ هنا إثبات العمل وليس إلغاءه والأمر واضح لا يستدعي الاسترسال. الآية الثانية : “وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ “,والمعنى ما نسخ فيها من كتب ..تعني الإثبات لا الإلغاء. الآية الثالثة: “ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ “ففي هذه الآية الكريمة وهي أكثر آية سقطت أمامها بصيرة القوم. وسنرى أن هذه الآية كسابقاتها تعني الإثبات ,والمعنى: أن الشيطان يلقي مجموعة من الأماني على النبي فينسخ الله هذه الأمنية ويحكم آياته لكي لا تتسرب إليها ليجعلها فتنة للقلوب المريضة. ولا يعقل أن يجعلها فتنة إذا كان سبحانه قد ألغاها, فالنسخ هنا بمعنى الإثبات أيضا ..أي فيثبت هذه الدعوى gيجعلها فتنة لمرضى القلوب ويحكم آياته . وبعد هذا.. تعالوا ننظر ماذا تعني الآية التي دار حولها هذا الاستعراض “ما ننسخ من آية..”, فالمعنى ما نثبت من آية والمقصود “المعجزة الدالة على صدق النبي “ أو ننسها بفعل التقادم الزمني ونتركها، نأتي بخير منها ،أو بمثلها على الأقل، وبالفعل كانت آية محمد الكريم هي خير الآيات لأنها تخاطب العقول لا الحواس ، فهي آية عقلية لا حسية ولكن أصحاب النبي أرادوا أن تكون لهم آية من مثل ما سئل قوم موسى من الآيات الحسية” أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ”وهذا المعنى لا يتضح إلا لمن يخضع للسياق بنوعيه القبلي والبعدي والذي لا بد أن تكون أحد القواعدالمهمة في تناول القرآن الكريم . مخاطر القول بفكرة النسخ على القرآن: أولاً: القول بالنسخ يحول القرآن إلى صراع ذوقي بين المذاهب فهذا يثبت حكم آية قرآنية وهذا يلغيهابآية أخرى, والبعض قد يوصل الآيات المنسوخة إلى ما يزيد على مائتين آية ،والبعض الآخر يقلل منها ليوصلها إلى عشرين آية, والبعض إلى ست آيات فقط كما ذكرنا ذلك . وهناك من العلماء السابقين قد نفى عقيدة النسخ بالجملة ، مثل أبو مسلم الأصفهاني ومن المعاصرين :الشيخ محمد عبده ,ورشيد رضا ,وطه العلواني,والترابي ,وعلي جمعة , والشيخ شلتوت وأبو زهرة ,وجمال البنا ,وأحمد صبحي وغيرهم من علماء القرآن الذين نزهوا القرآن عن مثل هذا التخبط, ثانياً: تحجيم القرآن وصلاحيته لكل زمان ومكان, وتحويله إلى منتج ثقافي خالص ,حيث قام الدكتور نصر حامد أبو زيد بالبناء على فكرة النسخ ، ليصل إلى نتيجة مفادها: أن القرآن منتج ثقافي ساهمت في تشكيله ثقافة عصره ومشكلاته ،التي كان يعالجها بتنزيل حكم ثم إلغاءه.. نظراً لظروف الناس..وظروف الناس ومشكلاتهم ما زالت قائمة ومتجددة ، وعلى هذا لو استمر الوحي القرآني لنسخ كثيرا من الآيات,فإذا هو قد نسخ ما يقارب على ثلاث مئة حكم في مدة زمنية محدودة فكيف بألف وأربعمائة سنة !.. لا شك أنه لم يتبقى من القرآن حكم يذكر, ولأن الوحي انقطع فيدل هذا على أن هذه الأحكام لم تخص إلا من نزلت إليهم في ذلك الوقت فقط . ثالثاً: القول بالنسخ اتهام لله بفكرة البدء اليهودية.. يقول شيئا ثم يعدل عنه والذي استفاد منها الشيعة الاثني عشرية لترقيع مذهبهم حول الأئمة وظهورهم كما هو معرف.. إضافة إلى معالجة تناقض الروايات عندهم. رابعاً: القول بالنسخ وهم وتخبط يعيق سلامة النظر وتدبر النص القرآني ليجعل من الناظر رهن تخبطات ما أنزل الله بها من سلطان. وقبل أن ننهي هذا الموضوع نريد التأكيد أن ما من آية قالوا بنسخها إلا وقد جمع بينها وبين ناسخها مجموعة من العلماء.وللعلم فالنسخ هو حصيلة عدم القدرة على الجمع بين الآيات التي ينظر إليها لأول وهلة متناقضة ,وهناك كثير من الكتب عنيت بمثل هذا الدور التي ينبغي الرجوع إليها في الجمع بين الآيات التي زعم نسخها خشية الإطالة,منها: كتاب لجمال البنا “تفنيد دعوى النسخ “, وطه العلوانيالذي ذكرناه سابقا ,وكتاب رائع بعنوان “بالحجة والبرهان لا نسخ في القرآن “وغيرها من الكتب العامرة بنقض هذا الوهم المتناسخ الذي يزحف على عالمية النص السماوي كمنتج سماوي متفاعل مع اللسان العربي لا ثقافي محض كم زعم بعض من ذكرنا.