كانت المناداة بقيام مجتمع مدني، مطلب جميع مكونات ثورة الشباب في فبراير 2011 لكون قيامه سيشكل قطيعة ولو جزئية مع المرحلة السابقة ، بكل سلبياتها ، وبداية عهد مشرق جديد . ومع شيوع هذا المفهوم الملتبس لدى الكثيرين ، وإتساع نطاقه التداولي ، لاسيما بعد الثورة كان من الضرورة بمكان توضيح هذا المفهوم الإخطبوطي الذي تنطوي داخله مفاهيم متعددة . يتسم الاشتغال في هذا المفهوم ،على كثير من الغموض لكونه يتضمن إستحالة تحديد الصعوبة او الإختلاف حول المدلول الفكري الذي يحمله وتعدد منطلقاته الايديولوجية ، ممايؤكد غموض المفهوم ذاته ليس في أذهان الاكاديميين والسياسيين العرب بل يمتد ليشمل من كتبوا ونظّروا للمجتمع المدني في البلاد الغربية .عوضاً عن الإشكاليات التي تثيرها هجرة المفاهيم ، وإنتقالها من الفضاء الثقافي التداولي الغربي إلى الفضاء الثقافي التداولي العربي. وهنا قد نضطر إلي تأخير ما يجب أن يتقدم وتقديم مايجب أن يتأخر وسأبدأ بتناول مفهوم (المجتمع) و (الدولة ) .ثم نعود إلى السياق الزماني والمكاني لنشأته والوقوف عند التطورات والتمفصلات التي شهدها ، وعرض رؤية أهم المفكرين الذين ساهموا في بلورته وتشكيل إتجاهاته ،بعد ذلك نجمل الجدال الدائر حوله ،ونختتم بعرض مكوناته والمفهوم السائد عنه. اولاً المجتمع/ عبارة عن نسق مكون من العرف المنوع والإجراءات المرسومة ، ومن السلطة والمعرفة المتبادلة ومن كثير من التجمعات والاقسام ،وشتى اوجه ضبط السلوك الإنساني والحريات ، ونطلق على هذا النسق المعقد إسم المجتمع . ثانياً الدولة/هي تجمع سياسي يؤسس كيانا ذا إختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد ، ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة. وبالتالي فإن العناصر الاساسية لأية دولة هي الحكومة والشعب والإقليم . بعض المفكرين يرجع نشأة هذا المفهوم إلي العصر اليوناني.كمرادف لمعنى المجتمع الرشيد فكلمة مدني بالإنجليزية ( civil) تترجم إلى رشيد أو متمدن ، وسقراط على سبيل المثال رأى أن الصراع والخلافات يجب أن تحل عن طريق الحوار المنطقي فالجدل حاسم وهام من اجل تأكيد التمدن الذي يعود علي المجتمع بالنفع العام - اما ارسطو فإنه نظر إلي المجتمع والدولة بإعتبارهما تجمع التجمعات ، التي تمكن المواطنين من المشاركة في المهمة الفاضلة المتعلقة بأن يحكموا ويحاكموا. إلا انه بعد إنهيار الحضارتين اليونانية والرومانية حدثت حالة نكوص (إرتداد) بمفهوم المواطنة والمشاركة في الحكم والتمدن ليحل محلها منطق الحق الإلهي وهيمنة الكنيسة ، وملاك الارض وهذا ماكان سائداً في القرون الوسطى . في عصر النهضة شرع الفلاسفة بالبحث في المباحث الكلاسيكية للعصور القديمة خاصة اليونانية. واعتبروها مرجعيتهم الفكرية ،وبدأوا ايضاً في إستعادة المفاهيم حول الدولة القومية والمجتمع والمواطنة. ومناقشة المفاهيم المرتبطة بالحق الإلهي للحاكم ، وتجدر الإشارة إلي أن عصر النهضة بما يعنيه الإنتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة وتبدأ من القرن 14و حتى القرن 18 إلا أن معالم هذا العصر لم تظهر دفعة واحدة بل إستمرت عدة قرون شهدت تراكماً مادياً وفكرياً هائلاً ، وتحولات ثورية على جميع الاصعدة . والتي كانت النواة لقيام الثورات السياسية البرجوازية . والتي كان نجاحها الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير، وبفضلها إنتقلت اوروبا من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلي مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى والتي احدثت زلزالاً في الفكر الاوروبي الحديث. وفي هذة الفترة عرف مفهوم المجتمع المدني تطوراً خاصاً علي يد عدد من المفكرين ، ابرزهم توماس هوبز وجون لوك و آخرين كهيجل وماركس. لقد خلص هوبز إلي أن المجتمع المدني يشكل حكومة ودولة، طبعاً بعد تخلي الافراد عن سيادتهم الفردية . ولكن من اجل الحفاظ على مجتمع متمدن هناك ضرورة الحاجة لدولة قوية اما جون لوك فقد بلور نظريته في أن الشعب يخضع نفسه لسلطة عامة مشتركة (الدولة) وهذه السلطة تمتلك القوة للتنفيذ والمحافظة على القوانين .كما انها (الدولة)لاتمتلك القوة لتهديد الحقوق الاساسية للمواطنين والمتمثلة في حق حماية الحياة والحرية والملكية. نخلص من ذلك أن مفكري عصر التنوير قاموا بخلخلة كافة العلاقات التي تعطي للدولة والحاكم صفة فوق افراد الشعب ، وإحلالها بثقافة أن الدولة والحكم هما نتاج منطقي من قبل المجتمع لطريقة الحكم ، ولاتستمد حكمها او صلاحيتها من الآلهه او الاديان أو أي شئ آخر فوق الإرادة الحرة للبشر ، بل تجعل من الحاكم موظف مفوض من قبل المجتمع ،محاسب منه ولا يستمد قوته إلا من هذا التفويض. وفي منتصف القرن العشرين صاغ المفكر اليساري انطونيو غرامشي مفهوماً جديداً للمجتمع المدني وهو الأقرب إلى الفهم الواقعي فالمجتمع المدني عنده هو المرحلة النهائية من تنظيم المصالح المختلفة المقدمة من القاعدة كمرحلة إنتقالية بإتجاه الدولة .واضاف انه إذا كان المجتمع السياسي حيزاً للسيطرة بواسطة سلطة الدولة ، فإن المجتمع المدني فضاء للهيمنة الثقافية الإيديولوجية ، وهي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدعي انها خاصة كالنقابات والمدارس ودور العبادة والهيئات الثقافية المختلفة وتتبدى من إحتضان كتل المجتمع المتجانسة وإقامة اللحمة بينها من اجل خلق كتلة سياسية إقتصادية تأريخية متناسقة جديدة دون تناقضات داخلية . وقد اجمل الدكتور خلدون النقيب الجدال الدائر حول المجتمع المدني عامة بثلاث توجهات رئيسية: 1 التوجه الذي يساوي بين المجتمع المدني والدولة والذي نجد اصله عند هوبز. 2 التوجه الذي يجعل من المجتمع المدني مجالاً مستقلاً عن الدولة ، ومنحصراً في الجماعات الأهلية وروحها التضامنية والذي نجده عند لوك. 3 التوجه الذي يجعل المجتمع المدني ومؤسساته تشغل حيزاً بين علاقات السوق (الإقتصاد) والقوة السياسية ونجده عند غرامشي واضاف الدكتور”النقيب “ لقد كان هناك مجتمع مدني في كل المراحل التأريخية والتي اعقبت قيام الدولة ومؤسساتها السياسية ، كما نجده في جذور المجتمع العربي الإسلامي . بما هو إستقلال او توازن مع الدولة ،في ما يسمونة معادلة (الدولة ,الشريعة) ،(العصبية ,الملة) وفي الإنتاج الحرفي ،والطرق الصوفية وحركات المعارضة والوقف . واضاف النقيب بأن هناك تلازماً عضوياً بين الدولة والمجتمع المدني إذ أن الأخير لا يقوم إلا بمواجهة الدولة وبإعترافها. ويقصد من ذلك أن المجتمع المدني ومؤسساته، تتعرض بإستمرار إلي محاولة الدولة إخضاعها وإضعاف روح التضامن الإجتماعي وتقابلها ظاهرة مقاومة المجتمع المدني لمحاولات الدولة التسلط على المجتمع والتسيد عليه. وتختلف المجتمعات من حيث درجة نضج مؤسسات المجتمع المدني ورسوخها (إستقلاليتها عن الدولة) فالمجتمعات الغربية تملك هامشاً واسعاً من الأستقلال ،وبالتالي فهى اقدر على مقاومة أجهزة الدولة الإمنية والاعلامية والأيديولوجية. من خلال الإتجاهات الفكرية المتعددة لمفهوم المجتمع المدني يمكننا ان نعرض مكوناته وقبل ذلك اقول انه مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة ، التي تنشأ لتحقيق مصالح افرادها ، وتقديم خدمات للمواطنين وممارسة انشطة إنسانية متنوعة وتلتزم بقيم ومعايير ثقافية كالإحترام والتسامح والتنوع والإختلاف ,ويتكون من الهيئات التي تسمى في علم الإجتماع المؤسسات الثانوية كالنقابات المهنية والعمالية والحركات الإجتماعية والجمعيات التعاونية والاهلية والثقافية والمنظمات غير الحكومية الدفاعية والتنموية كمراكز حقوق الإنسان والمرأة والبيئة ومراكز البحوث والدراسات والشباب والاتحادات الطلابية والنوادي الرياضية والإجتماعية ونوادي هيئات التدريس بالجامعات والغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الاعمال والصحافة الحرة واجهزة الإعلام والنشر.وتستبعد منه الجماعات الاولية كالاسرة والقبيلة والطائفة الأثنية والمذهبية والدينية و المؤسسات السياسية و الحكومية.