المجتمع المدني سواء بالمفهوم الماركسي أو الليبرالي يمثل نفياً للعنف، فالمجتمع المدني سواء في المفهوم الماركسي الكلاسيكي: ماركس انجلز ، القائم علي السوق الرأسمالية، والذي بدونه لا يمكن التمييز بين المجتمع والدولة . أو في مفهومه الليبرالي المرتبط بمجال تقسيم العمل كما يري هيجل، وإشباع الحاجات المادية .ومجال تنافس المصالح الخاصة والمتنافسة فهو أي المجتمع المدني نفي للقوة ومجتمع ما قبل عصر الدولة . بقدر ما هو نفي للحق الإلهي أو التوريث أو الغلبة . فهو مرتبط أشد الإرتباط بالعقد الاجتماعي وبالسيادة وحرية الاختيار . ويذهب غرامشي إلي أن المجتمع المدني ليس مجالاً للتنافس الاقتصادي ''الصراع الطبقي'' كاعتقاد ماركس وإنما هو قضاء للتنافس الإيديولوجي . ويركز غرامشي علي الهيمنة الإيديولوجية مميزاً بين السيطرة عن طريق القوة، أو التهديد بها ومفهوم الهيمنة بمعني الاستبطان من قبل فئة اجتماعية للمعايير المنتجة من قبل فئات اجتماعية أخري، بمعني أن الهيمنة لا تقوم علي الإخضاع عن طريق القوة. ولكن بالقبول عن طريق القيادة السياسية والأيديولوجية. في قراءة للدكتور متروك الفالح ، عن الحالة اليمنية وهي قراءة نتفق معه في بعض معطياتها إلا أننا نختلف معه في النتائج التي يخرج بها. وفي التهوين من انشغالات الحركة السياسية اليمنية، والمجتمع المدني بشكل عام وهو ما أشرنا إليه سابقاً. فالديمقراطية اليمنية لم تكن هبة الحكم وإنما هي ثمرة كفاح طويل استمر لأكثر من نصف قرن في الشمال والجنوب. بل أن ثورة سبتمبر 1962م ونيل الاستقلال في الجنوب 1967م وثيق الصلة بنضال الحركة النقابية العمالية والأحزاب السياسية الحديثة بخاصة والصحافة الحرة ''الصحافة العدنية والمهاجرة'' وقوي مجتمعة متنوعة وعديدة . ففي تشخيص ''للحالة اليمنية'' حسب العنونة يري أن تجربة الديمقراطية وتحولاتها لا صلة لها بالمجتمع المدني! رغم وجود تكوينات وتنظيمات ذات صلة ''بما يسمي المجتمع المدني''! ويري ومعه حق أن التمدن والتحضر في اليمن ما زالا منخفضين بالمقارنة بأغلب الدول العربية ويري غلبة الطابع الريفي والقبلي ويقدم قراءة متتبعة لترييف المدن والأرقام المتصاعدة في الهجرة إلي المدن . ويترصد الأحياء المدنية ذات الانتماءات القبلية في صنعاء، خولان، حاشد، بكيل، وفاته أن هناك أحياء يقطنها أبناء مناطق مختلفة من مختلف مناطق اليمن فيما يشبه ''الجيتو'': وصاب، عتمه، تعز ألخ . يخلص إلي القول: (وعلي الرغم من وجود حياة حزبية في ''المدن'' اليمنية . وكذلك بعض النشاط المحدود لمجموعات وتنظيمات ذات صلة بما يسمي بالمجتمع المدني، فإن القبيلة والقبائل في اليمن والمتقاطعة مع الدولة بالمقارنة مع تنظيمات ما يسمي بالمجتمع المدني والتي تعيش في أحسن أحوالها أزمات مستمرة مثل حال نقابة الصحفيين التي كانت عام 1997م تمر بأزمة حادة، وغير ''المؤثرة والمتداخلة'' مع القوي الحزبية وانقساماتها علي كافة المستويات السياسية وكذلك الاجتماعية سواء علي مستوي الدولة والممارسة السياسية والحزبية أو علي المستويات الشعبية والأهلية والاجتماعية. ومن هنا فإن الريف بقواه وثقافته القبلية والمناطقية ولربما المذهبية يتداخل وتلك الانشغالات المسماة مدنا وقواها وثقافتها. وعلي هذا الأساس فإن التحول الديمقراطي في اليمن لم يكن نتيجة ديناميكية وفاعلية قوي المجتمع المدني. وإنما أتي من توجه للسلطة في اليمن، وتمشياً مع ظروف الوحدة اليمنية واتجاهاتها فالتحول الديمقراطي في اليمن هو الذي ساعد علي تنامي بعض تنظيمات ما يسمي بالمجتمع المدني، وبخاصة بعد عام 1990م وليس العكس. ويمضي إلي القول لذلك يلاحظ أنه وفي أثناء أزمة الوحدة (1993-1994م) فإن القوي ذات الصلة بما يسمي ''المجتمع المدني'' من تنظيمات وأحزاب والتي قامت بصياغة وثيقة العهد والاتفاق ... لم تستطع أن تؤثر في مجريات الأمور،واتجاهاتها لاحقاً.. فيما التوجهات القبلية والمناطقية والدينية ''المذهبية'' كانت حاضرة فاعلة أثناء الأزمة، وفي ثنايا الحرب. والحقيقة أن قراءة الدكتور الفالح يغيب عنها التاريخ الحقيقي والواقعي لمؤسسات المجتمع المدني في اليمن والتي تمتد لما يقرب من نصف قرن. كما انه لا يعود إلي تجربة الحركة اليمنية الديمقراطية وأثرها في الشمال والجنوب. وتعود قراءته إلي مراحل متأخرة ينقصها الدقة والعمق. كما أن إخفاقات هذه المؤسسات لا يعني إلغاءها أو التهميش أو الانتقاص من دورها ومشاركتها في صياغة العهد والاتفاق يعني فيما يعني أنها الطرف الثاني في المعادلة والأهم أن الديمقراطية لم تكن هبة أو منحة إنها ثمرة كفاح عقود ولا تزال متواصلة. وإذا ما خسرت معركة أو حتي عدة معارك فلا يعني النهاية. وينبغي أن يعرف الباحث الذي نتضامن معه ومع رفاقه الإصلاحيين أن مؤسسات المجتمع قوية بما يكفي للدفاع عن الحقوق المدنية. والدأب علي نشر تيارات الحداثة والتمدن والتحضر. الداء والدواء وإذا كنا قد رصدنا طبيعة المجتمع المدني، ونشأته وتطوره ووجهات النظر المختلفة فإن هذا التشخيص يساعد علي رؤية فهم الخلل القائم. وهو خلل أدركه الأحرار اليمانيون منتصف الأربعينات من القرن الماضي. كما أشار إليه العديد من الرحالة وفي مقدمتهم عبد العزيز الثعالبي، وأمين الريحاني، وغيرهما. ويقيناً فإن امتزاج القبيلة بالأمية المدججة بالسلاح ونشر الأفكار المتطرفة أياً كانت هي الخطر الداهم . إن بقاء القبيلة خارج النظام والقانون وغياب هيبة الدولة وعدم دمج الكيانات القبلية بجسم الحياة المدنية الآمنة والمطمئنة هي الحرف الأول في أبجدية المعالجة. إن نشر التعليم الحديث، وتقديم الخدمات وحل المنازعات والثارات وتحديت المجتمع ككل هو الخطوة الأولي والضرورية. وتستطيع مؤسسات المجتمع المدني: الأحزاب، والنقابات، والجمعيات التعاونية، والخيرية، والصحافة، أن تلعب دوراً في التحديث. إن عسكرة القبيلة، وانتشار السلاح وعدم دمجها بالمجتمع ومد الخدمات: الطرقات، والماء، والكهرباء، والمدارس، والمستوصفات، وتحديث الزراعة، وإنشاء المعاهد الفنية لتأهيل شباب القبيلة وتوفير الحياة المعيشية قضية القضايا في مجتمع شبه مغلق علي نفسه، والحقيقة أن الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر قد أخطأت في معالجة أو بالأحري التعامل مع القبيلة . ففي حين اتجهت أكتوبر إلي القمع الشديد والتجريم والتخوين للسلاطين وزعماء العشائر . ونكلت بهم أيما تنكيل . وقذفت بهم خارج الحدود فإن سبتمبر قد زودتهم بالسلاح وأمدتهم بالمال. وجعلت من الشيخ واسطة العقد بين الدولة وأبناء القبيلة. وجعلت من المشايخ قوة فوق النظام والقانون ، واستخدمت القبيلة أو تحالفت معها لخوض المعارك ضد الجنوب وضد الاتجاهات المدنية الحديثة وأحزاب المعارضة والأخطر التشجيع أو التغاضي عن تعدي القبيلة علي هيبة الدولة. وتشجيع الاحتراب والثارات . ونشر التعليم الطوائفي وإبقاء القبلية كقوة حليفة واحتياطية لضرب المعارضة السياسية وعصيان المدينة. إن تشجيع الاغتيال والاختطاف أو التغاضي عنه أو التعامل باستهانة قد أدي إلي نتائج كارثية. ولكن المعالجة أيضاً لن تكون بتجريد السلاح فقط وإنما بالحوار المعزز بقوة الحق. وإفساح السبيل أمام هيئات ومؤسسات المجتمع المدني لتلعب دورها الحي والفاعل في التحديث والتوعية والتحضير.فتحديث الدولة نفسها والعمل بالتعاون مع المجتمع المدني لتحديث المجتمع بنية وفكراً وثقافة هو السبيل الوحيد من مأزق الاحتراب المستدام والفتن الطائفية والثارات والاختطاف.