ألقيتُ نظرة شاملة على القاعة.. تأكدت من أنه لم يعد يلزمها أي شيء، جلست منهكاً على بابها أنتظر، وبينما أنا كذلك، راق لي أن أقرأ عنوان الندوة الذي فاجأني.. إنه يتعلق بشريحة كبيرة أنا واحد منها، وقبل أن أتمّ قراءة ما في اللوحة المعلّقة جاء منسق الندوة.. يدير الانفعال حركاته: هاه.. أراك جالساً دون عمل! هل كل شيء على ما يرام، ستبدأ الندوة بعد ساعة! انتفضت واقفاً عند سماع صوته الغليظ: أجل يا سيدي.. لقد أتيت منذ الصباح الباكر، وقضيت وقتاً طويلاً في التنظيف، أنظر.. فحص القاعة بنظرة باردة: لا بأس.. ولكن اسمع!، عليك أن تعود لتنظيفها مرة أخرى عند انتهاء الندوة. وانطلق كالسهم نحو المنصة ليعاينها عن قرب، ويطمئن على سلامة مكبرات الصوت، ووضعية الزهور، ونظافة السجاد، وثبات اللوحة الخلفية.. اقتربت منه في قلق، أحجمت عن الكلام حينما رأيته منهمكاً في كتابة أسطر طويلة، لكنه باغتني: أمازلت هنا!.. هوت مكنستي على الأرض بفعل المفاجأة وأخذ جسدي في الارتعاش: كنت.. كنت أريد أن.. أن أطلب منك شيئاً... عاد للكتابة في هدوء مصطنع: سنتحاسب بعد الندوة . ولكني لا أطلب أجرة التنظيف الآن! فعاد كالعاصفة: فماذا تريد إذاً؟! ... كنت أريد أن أبقى هنا لسماع ما سيقولون، إنها المرة الأولى التي أشهد فيها ندوة في حياتي. حدجني بنظرة احتقار دَهِشَة، طَلاني بها من قمة رأسي حتى أخمص قدمي: ماذا؟! ..أنت! .. هل جننت؟ .. هذه ندوة على درجة عالية من الأهمية، لقد دعا لانعقادها مسؤولون على أعلى المستويات، وستحضرها شخصيات بارزة ووجهاء ومثقفون و ... كاد ينبجسُ من وجنتيه نهر من الدماء الحارة لشدة غيظه، جمع أوراقه وسار بين مدرَّجات المقاعد الخالية، يتمتم بكلمات أحسبه يعنيني بها لكنه توقف عند الباب فجأة، التفت نحوي وقد شممت رائحة المكر من كلماته: حسناً .. بإمكانك البقاء قرب الباب كي تستمع و .. و تنفذ ما سآمرك به أثناء الندوة أيضاً. قفزتُ من على المنصة، أسرعت نحو الباب كأرنبٍ برِّيٍّ طريد، وقبل أن يغادر ليُجري مكالمة هاتفية وصفها ب (المهمة) حذّرني من التحدث إلى أي شخص، وذكَّرني بأني مجرد عامل نظافة، ولا شأن لي بما لا يعنيني.. بدأ المدعوون يتقاطرون إلى القاعة و بدا لي من مظهرهم وهندامهم الأنيق أنهم ذوو منصب وثراء، كما احتل بعض المقاعد أشخاص لا تفارق الأقلام أناملهم، يجلسون صامتين لكن أياديهم تسعى فوق دفاتر وأوراق صغيرة، دون توقف.. عاد المُنسّق إليّ، يعبث القلق بملامحه.. يناظر القاعة من حين لآخر.. ويتمتم في ضيق: “ لم يأتِ بعد، عجباً .. لقد تأخر كثيراً..! “ مرت نصف ساعة أخرى.. ونال الملل من الحاضرين، وامتلأت بهم القاعة عن آخرها، وشعرت هنا بالدهشة والغبطة معاً حين رأيت كل هؤلاء الناس يهتمون بنا، ويحرصون على الحضور إلى ندوة تناقش همومنا وقضايانا، وبينما أنا كذلك، سمعت همهمةً وحركةً صاخبة خلفي.. التفت لأنظر، وإذ بي أمام راعي الندوة وجهاً لوجه.. لم يمهلوني وقتاً لأتحقق.. إن كنت أحلم، أو أني أراه أمامي حقاً.. فقد دفعني أحد حراسه بعنف وفظاظة: أفسح الطريق! ... ووجدتُنِي أتدحرج على الدرج، يجرفني سيل الأقدام الراكضة نحو المنصة التي اعتلاها هو ونفرٌ من المسؤولين، عدت إلى الباب بصعوبة، أنفض عني الغبار، أصلح هيئتي المضعضعة وأمسك بألم على ما ترضض من جسدي، بينما لم يكترث لحالي أحد. بدأ صوت المكبرات يعلو في فضاء القاعة، ورأيت منسق الندوة باسماً مسروراً على غير عادته، يرحب بالرعاة والحضور ويدشِّن فعالياتها بسلاسة ولطف كان يفتقدهما منذ دقائق. توالت الخطابات، واستطال الحديث الذي لم تعتد أذناي الصغيرتان سماع مثله، وعاف عقلي معظمه .. لكني رغم ذلك كنت مسروراً لمجرد وجودي هنا، منهمكاً في الإصغاء لولا ذلك الرنين المتكرر بين جنبات القاعة والذي طالما أفسد محاولاتي الجادة في استيعاب ما يقال. رنين... يتبعه رنين... زاد الأمر عن حده، وبلغ الغيظ بالمنسق مداه، فطالب الحاضرين بإغلاق هواتفهم المحمولة حرصاً على هدوء المكان، وبعد أن رضخ الجميع للأوامر عدت للإصغاء لكني لمحت المنسق يشير إليّ من بعيد بأن آتي، شعرت برهبة وأنا أخترق المدرجات الصامتة.. وصلت إليه، أعطاني قصاصة ورق مطويَّة وأمرني بإيصالها إلى أحد الجالسين في الصف الأول، وعندما فعلت، هرعت عائداً إلى مكاني، أواصل المتابعة والتَّأمل، وما هي إلا لحظات حتى أشار إليَّ أحد الحضور فتقدمت إليه، طلب مني أن أسلم قصاصة ورق مطوية أخرى إلى أحد الجالسين في الصف الثالث، .. ولكأن الأمر قد راق لهم !! ، فما أن انتهيت من المهمة وهممتُ بالعودة، حتى استوقفتني إحداهن، وهمست لي: «أوصل القصاصة المطويَّة إلى فلان.. هناك، إنه يجلس في ذلك الصف.. من فلان إلى فلان.. ومن زيد إلى عمرو.. وبين ذاهب وعائدٍ بين الصفوف.. رَكضتْ دقائق الندوة دون أناة.. وانقضت دون أن أظفر منها بما يفيد، وخاب رجائي حين رأيت راعي الندوة يودِّع الحاضرين الذين ما لبثوا أن تبعوه في غوغائية عجيبة لم أكن أحسبها تصدر عن أمثالهم. نظرت إلى القاعة التي عاد يحشوها الفراغ، وشاهدت المنسق الذي كان آخر المنسحبين يصعد نحوي، يحمل أوراقه وابتسامته تملأ فمه، يخرج خروج الظافر المنتصر، دون أن ينسى أن يأمرني مرة أخرى «بتنظيف المكان!». سرت بين المدرجات دون رهبة هذه المرة.. وصلت إلى المنصة، وعدتُ أتهجَّى عنوان الندوة، نظرت إلى القاعة مُستعيداً ما جرى.. وكأن الأمر برمته كان طيف حلم وانقضى! حملت رفيقتي وذهبت أبحث عمَّا يصلح للكنس، ولاحظت أن القاعة ما تزال تحافظ على نظافتها وترتيبها السابقين لولا وجود تلك القصاصات الورقية (المطويّة) التي استكانت تحت المقاعد. اقتربت منها.. التقطت واحدة، دفعني الفضول لأن أفتحها وأرى ما الذي كان يشغل الناس وما يدور بينهم من حديث مهم أثناء الندوة . وفاجأني: ما قرأت! تنقَّلت سريعاً بين المقاعد ألتقط ما تبقى من وريقات.. ثم قرأتها جميعاً: (لماذا أغلقت هاتفك؟! لا تصغِ إلى هذا المنسق الغبي ودعنا نواصل حديثنا!) .. (سألقاك بعد الندوة في مقهى المدينة..) .. (لكم أشعر بالضجر!) .. (لقد اقترب موعد الخياط، علينا أن ننهض الآن!) .. (الصبر يا صديقي.. أنا لم أحضر إلى هنا من أجل الندوة، لقد حضرت للقاء المسؤول لمصلحة أقضيها معه)، (أيُّ ثرثرة هذه! متى ينتهوا من هذه الندوة ويفرجوا عنَّا؟!) .. (لابد من المجاملة يا صديقي، فنحن مراقبون) .. (ألا ترى أننا نضيع وقتنا هنا..) .. (تبدين متألقة باللون الزهري!) .. (ما أخبار البورصة يا صاح؟!) .. (لا جديد .. أحمر في أحم !) .. (ألا ترى أن انعقاد هذه الندوة في هذا المكان لم يكن له داعٍ ؟؟) .. (أرى أن انعقادها لم يكن له داعٍ ؟!). نَفرت القصاصات من يدي، تساقطت على الأرض الواحدة تلو الأخرى.. ولما فَرَغتْ مني الدهشة وتَرحَّلتْ عني الخيبة.. هززت مكنستي واصطحبت ما تبقى من هذه الندوة إلى الخارج. وأخفيتها في المكان الذي يخفي الناس فيه ما يسوؤهم... رؤيته!