لم أتوقع أن يتلقى العقلاء ضربات قاتلة من بعض من يلقبون أنفسهم ب «علماء الشريعة»! ، لا لشئ إلا لأنهم رضوا مكرهين أن تكون الفيدرالية في اليمن حلاً بديلاً عن الإنفصال الذي صار له أنصار ومؤيدون يستحيل تجاوزهم ، أو التصدي لعتاتهم من جيش منقسم متعدد الولاءات ، وفي ظل حروب داخلية تغذيها أطراف خارجية وعلى جبهات متعددة لا تفتأ تشتعل وتمتد بين فينة وأخرى ، وأمام تردٍّ اقتصادي خانق لا يجد له متنفساً إلا عبر مساعدات إقليمية ودولية مشروطة ، وفي مواجهة مؤامرات دولية ساءها الربيع العربي فعملت جاهدة لتقلبه خريفاً قاحلاً يبتدئ بالإسلاميين ولا ينتهي بهم. - عليهم أن يفيقوا من أحلام اليقظة ليعيشوا مرارة الواقع ، وأن يُدركوا أن عصر الراشدين قد ولى وأننا في عصر الفاسدين الذين طغوا في البلاد وأكلوا حقوق العباد، وعليهم مادام بنيان المسلمين متصدعاً كلمتهم متفرقة أن يغضوا الطرف عن قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير) – الحج 39 - ويتمسكوا بقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْوَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) – النساء 77- عليهم أن يعلموا أن سحابة المعتصم لم يعد خراجها يأتي إلينا، وأن خيول الفاتحين صارت دبابات بأيدي الغزاة تحتل الأرض وتنهب الثروات، وعليهم أن يُكثروا الدعاء لمن كانت خير أمة ليعافيها الله من داء الفرقة، والنزاع ، والخيانة، والبؤس، والتخلف الذي صارت به أشقى الأمم، وعليهم أن يكفوا عن تمثيل دور شمشون الذي يملك بعنفوانه رقاب الخلق ويتحكم في مصائرهم، فهم ما زالوا يتسوّلون المعونات والعلوم والتكنولوجيا من الغرب والشرق وليكن عزاؤهم قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ..) – البقرة 173. الوحدة بين الفيدرالية والاندماجية إنهم يقصفون الفيدرالية بوابل غزير من الآيات والأحاديث الحاثة على الاعتصام بحبل الله والمحذرة من الفرقة والشتات ، ولا تملك إلا أن تقف محتاراً تتساءل وما علاقة الفيدرالية بالفرقة والشتات؟!، إن الإمبراطوريات القوية التي تحكم العالم فيدرالية بامتياز؟ كما أن الدول التي عانت من حروب دينية أو عرقية أو إثنية لجأت إلى الفيدرالية لإطفاء نار الصراع وهروباً من التشظي والإنقسام، فجمعت بين فضيلتين كان أولها تحقيق السلم الاجتماعي ولم يكن آخرها بقاء وحدتها السياسية، خصوصاً في بلد تسيطر فيه القبيلة على السلطة المركزية وتنعم بكل ثروات البلاد دون سائر المواطنين في سائر المحافظات. إن وحدة البلاد والتوزيع العادل للثروة صنوان لا يفترقان، وأمرُ الشرع بأحدهما لا يقل في شدته عن أمره بالآخر ، فلا يمكن أن تتألف قلوب الخلق إذا كان بعضهم يحيا في رفه العيش والبعض الآخر يعاني مرارة الحاجة، وخير أشكال الدولة ما جمع لنا بين وحدة البلاد والعيش الكريم، وشرهما ما ضاع فيه الأمران أو أحدهما، وضياع أحدهما مقتضٍ لضياع الآخر لا محالة، وفي فقه الموازنات سبيل لكل عاقل لاختيار أصلح الأمرين الفيدرالية أم الوحدة الاندماجية ، ورحم الله ابن تيمية حين قال (ليس الفقه معرفة الخير من الشر، ولكن الفقه معرفة خير الخيرين وشر الشرين). دولة الرسول (ص) أقرب إلى الفيدرالية. إن السيادة عنوانٌ عريض للتفريق بين أشكال الدولة في صورها المعاصرة، فاحتفاظ الدولة بسيادتها الداخلية والخارجية رغم اتحادها مع دول أُخرى كما في جامعة الدول العربية تسمى (الكونفدرالية)، وتخلي الدولة عن سيادتها الداخلية لصالح وحدات سياسية (أقاليم) تابعة لها تسمى (الفيدرالية) واسأل النموذج الأمريكي، أما احتفاظ الدولة بسيادتها الداخلية والخارجية مع إعطاء الوحدات الإدارية (محافظات) الحق في التنمية بكافة أشكالها فتعني الدولة الموحدة اللامركزية كبريطانيا، فإن أصرت الدولة على احتكار كافة الصلاحيات السياسية والإدارية والتنموية في سلطتها المركزية فهي الدولة الموحدة المركزية والذي تعاني منه الدول الاستبدادية في نسختها العربية. ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين دولة الرسول البدائية المتمركزة في المدينة والممتدة في جزيرة العرب وبين أشكال الدولة العصرية في صورتها الحالية لوجدنا بما لا يدع مجالاً للشك أن دولة الرسول أقرب إلى شكل الفيدرالية من بقية الأشكال، فقد كان الرسول (ص) يمنح من أسلموا من رؤساء القبائل والمناطق السلطة الكاملة في حكم مناطقهم ، ويكتفي منهم بتسليم ما فاض من الزكاة اعترفاً منهم بسيادته ، كما كان يتولى بالتعاون معهم وتحت قيادته الدفاع عن بلاد المسلمين، ولم تختلف كثيراً طريقة إدارة الحكم في عهد الرسول (ص) عنه في عهد الخلفاء الراشدين ، وربما كان أخذها بهذا الشكل لأسباب جغرافية وتكنولوجية وسياسية إضافة إلى بدائية فكرة الدولة في تلك الحقبة من الزمن. - وإذا كان الرسول (ص) وخلفاؤه الراشدون رضوا بالفيدرالية في شكلها البدائي ولم يروا فيها تعارضاً مع الأوامر الصارمة بوجوب وحدة المسلمين، فإن الفيدرالية في شكلها المعاصر أكثر تطوراً ووضوحاً وضماناً لتماسك الدولة ووحدة البلاد، حيث أن صلاحيات كلًٍّ من السلطة المركزية وسلطات الأقاليم محددة بدقة، كما أن السيادة الخارجية تنفرد بها السلطة المركزية الممثلة لكافة الأقاليم على خلاف فيدرالية دولة الرسول (ص) وخلفائه التي كانت تمتلك فيه الإمارات التابعة لهم بعض الصلاحيات المتعلقة بالسيادة الخارجية إضافة إلى امتلاكهم لقوات مقاتلة والتي أخذت شكل الجيوش النظامية في عهد الخلفاء كجيش معاوية في خلافة عثمان ، وهذا مالا تسمح به الفيدرالية في شكلها المعاصر خوفاً من أية موجة تمرد أو رغبة في انفصال خصوصاً من الأقاليم البعيدة عن المركز ، فالجيش لا يكون زمامه إلا بيد السلطة المركزية فقط. ميدان السياسة يحكمه فقه الموازنات لست أدعي أن الفيدرالية في دولة الرسول (ص) أو خلفائه تتطابق مع الفيدرالية في صورتها المعاصرة، ولست أدعي أن الفيدرالية نظام إسلامي، ولست أدعي أن الفيدرالية أفضل أشكال الدولة، ولست أجزم أن الفيدرالية أنسب الأشكال لليمن أو أنها خير من الوحدة الاندماجية، لكني أجزم أن الفيدرالية شكلٌ من أشكال الوحدة ولا صلة لها بالانفصال ، كما أجزم أن الأمر ليس فيه حق وباطل، وليس فيه ما هو إسلامي وما هو غربي، وإنما الأمر داخل في إطار الاجتهاد المحض الذي يراعي فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، فما غلبت مصلحته لزم التسليم به ولو كان فيه بعض الضرر ، وما غلبت مفسدته وجب الإعراض عنه ولو حرمنا بعض المصالح، وما اختلفنا في تقدير الغالب فيه أو تساوت فيه المصالح والمفاسد، احتكمنا فيه إلى الشورى ونزلنا فيه على رأي الأغلبية. إن ميدان السياسة ليس كميدان العبادات بل هو ميدانٌ شديد التعقيد والتقلب، لا يمكن أن تنظُمه نصوص جزئية أو تجارب ظرفية، ومن رام ذلك فقد رام أن يُدخل الفيل في خُرم إبرة ويحلق في الفضاء على ظهر ناقة ، وحكمة العقلاء تقتضي أن يدخلوا السياسة من باب فقه الموازنات، وباب فقه الاختلاف، وباب فقه التدرج، وباب فقه المقاصد، وباب فقه الأولويات، وباب فقه الحاجة والضرورة، وباب فقه الواقع ، وفي التجارب الإنسانية مدد لا ينضب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإن أُتهم العقلاء في حكمتهم، ورماهم بعض علماء الشريعة بالتخاذل والمداهنة في دين، فليتذكروا ما عاناه الرسول (ص) من عامة أصحابه يوم عقد صلح الحديبية، ثم ليُعزوا أنفسهم بعد الصبر الجميل بتلاوة قوله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) - (البقرة):269.