هل رأينا اثنين من المسلمين مختلفين على حرمة السرقة ؟ هل رأينا اثنين مختلفين على حرمة القتل ؟ هل رأينا اثنين مختلفين على وجوب الصلوات الخمس؟ هل رأينا اثنين مختلفين على وجوب صيام شهر رمضان ؟ هل رأينا اثنين مختلفين على البعث و الحساب والجزاء بعد الموت ؟ هل رأينا اثنين مختلفين حول الوحي كمصدر للقرآن .......الخ ؟. لكن في المقابل, هل رأينا اثنين مختلفين حول حرمة الغناء والموسيقى ؟ هل رأينا اثنين مختلفين حول جواز كشف المرأة لوجهها و جواز عملها في الحقل السياسي والقضائي والاجتماعي؟ هل رأينا اثنين مختلفين حول صحة ورود عن رسول الله صيام الست من شوال والاثنين والخميس وغيرها ؟ هل رأينا اثنين مختلفين حول عذاب القبر والمهدي ونزول عيسى .......الخ ؟. حول أسئلة القسم الأول أعتقد أنه ليس هناك اثنان من المسلمين من هم على خلاف في ذلك والكل مؤمن إيماناً يقيناً أن هذه الأمور هي من صميم الإسلام . أما حول أسئلة القسم الثاني فإن الخلاف ظاهر بين المسلمين حول كونها من الإسلام أم لا , وليس مجرد الخلاف الفكري , بل أحياناً يصل هذا الخلاف إلى التقاتل والصراع . فهل فكرنا يوماً لماذا هذا الاتفاق وهذا الاختلاف حول هذه القضايا بين المسلمين ؟ هل فكرنا يوماً لماذا الناس متفقين على أن القسم الأول هو من الدين , بينما هم مختلفون حول القسم الثاني كونه من الدين أم لا ؟ . هل تسألنا يوماً لماذا هؤلاء الناس الذين يدينون بدين واحد هم – على الرغم من ذلك مختلفين حول هذا الدين مما هو منه وما هو ليس منه ؟.. إن الناس متفقون حول أسئلة القسم الأول كونه دين وملزم من حيث قوة الدليل الذي ورد فيه, ومختلفون حول الثاني كونه ليس ديناً وكونه غير ملزم من حيث قوة الدليل أيضاً . فكما نعرف أن الأدلة الدينية أو الشرعية هي أدلة قطعية في ثبوتها ودلالتها, وظنية في ثبوتها ودلالتها أيضاً. فالدليل القطعي من حيث الثبوت هو الذي كُتب ودونَ وقت نزوله ونقلته الأمة نقلاً متوتراً جيلاً بعد جيل حيث يستحيل أن يجتمع هذا الجمع على الكذب . أما الدليل القطعي من حيث الدلالة هو الذي لا يحتمل أكثر من معنى وأكثر من تفسير لنصه, ويكون واضحاً في دلالته على الشي المراد منه . أما الدليل الظني من حيث ثبوته هو الذي لم يدون وقت وروده , ولم تنقله الأمة نقلاً متواتراً . والدليل ظني الدلالة هو الذي يحتمل أكثر من معنى وتأويل لنصه , فتتعدد حوله الأفهام . على ضوء ذلك يكون القرآن الكريم هو قطعي الثبوت عن الله لاشك فيه, والكل متفق على هذا. فالقرآن كُتب وقت نزوله أولاً بأول , ونقلته الأمة بالتواتر جيلاً بعد جيل . أما من حيث دلالته هو قطعي وظني في نفس الوقت . والظني منه هو الغالب في آياته, أما القطعي فهو قليل جداً مثل الآيات التي تتحدث عن الألُوهية , والنبوة , الجزاء , وأصول العبادات , وأحكام الأسرة والميراث , والعقوبات ... فهذه القطعيات كما يقول الشيخ القرضاوي في كتابه فقه الأولويات “ : (هي التي تجسدالوحدة العقيدية والفكرية والشعورية والعملية للأمة , ويُرجع إليها عند الاختلاف ) أضف إلى القرآن الكريم من حيث قطعية ثبوته السنة العملية التي مارسها الرسول ( عليه الصلاة والسلام ) و كانت تؤَدى من قبله بصفة مستمرة لتوضيح أو تفصيل ما أُمُرنا به في القرآن الكريم ودل القرآن على أن تفصيل ذلك موجود عند الرسول ونُقلت إلينا بالتواتر العملي الذي لاشك فيه , مثل الأمر بالصلاة والزكاة , فتفصيلها موجود عند الرسول , قال تعالى : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ) { النور : 56 } . أما الحديث المنسوب للرسول ( عليه الصلاة والسلام ) هو ظني في ثبوته , وقطعي وظني في دلالته . ظني الثبوت كونه لم يدون وقت صدوره من الرسول (عليه الصلاة والسلام ) , وإنما دون بعد وفاته , حيث كان أول تدوين له في عهد عمر بن عبد العزيز , ثم اتسع تدوينه في منتصف القرن الثالث الهجري , وكونه – من ناحية ثانية - نُقل بالمعنى ولم يُنقل باللفظ , ومن ناحية أخيرة أنه نُقل عن طرق الآحاد , ولم يُنقل بالتواتر كنقل القرآن . قال الحازمي في شروط الأئمة الخمسة (ص 37 ) : “ وإثبات التواتر في الحديث عسير جداً “ , وقال الشاطبي في كتاب الاعتصام ( ص 135 ج1 ) : “ أعوز أن يوجد حديث متواتر , واختلاف علماء السنة على ثبوته وعدده “ . أما كون الحديث قطعي الدلالة , فإن قطعيته تكون غير ملزمة طالما أنه ظني الثبوت أصلاً . إذن ينبغي التركيز على القطعيات المجمع عليها , لا على الظنيات المختلف فيها . القطعيات في العقيدة (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , والجنة والنار ) , والقطعيات في الشعائر ( الصلوات الخمس , صيام رمضان , الحج , الزكاة ) , والقطعيات في الشريعة أو المعاملات ( حرمة القتل , حرمة السرقة , حرمة الزنا , حرمة الربا ) , والقيم العليا ( العدل , الحرية , المساواة , والكرامة الإنسانية ) .. يجب أن تكون هذه القطعيات – كما يقول القرضاوي - هي أساس التثقيف والتفقيه , وأساس الدعوة والإعلام , وأساس التربية والتعليم , وأساس الوجود الإسلامي كله ... فما أخطر شيء على الدين والإنسان المسلم من جر الناس إلى الأمور الخلافية , وإشعال المعارك حولها , وإفراد خطب المنابر لها , فتصبح هي الشغل الشاغل , فتتحول من ظنيات احتمالية إلى قطعيات يقينية . فهذا هو خطرها على الدين , فيصبح الظني ديناً . أما من حيث خطورتها على الإنسان , فإن هذه الخلافيات الظنية ترهقه بالمعارك الوهمية , فتجعله يصوب سهام التكفير والتفسيق إلى مخالفه , إضافة إلى احتمال وقوعه في الشرك عندما ينسب إلى الدين ما ليس منه . وهذا هو الخلل الذي أصاب العقل الديني فقلب الدين رأساً على عقب , وجعل مساحة رحبة من أهم شئون الحياة لا علاقة لها بالإسلام , وعلى حين أقام الدينا وأقعدها من أجل أمور لا ينقص الإسلام ذرة لو تركها الناس أجمعون . { محمد الغزالي , المحاور الخمسة للقرآن الكريم , بتصرف } . ختام القول : أن الدين هو النص القطعي في ثبوته و دلالته – وهو القرآن الكريم – , و آيات القرآن الظنية في دلالتها هي من الدين من حيث كونها ثابتة عن الله , لكن الأفهام و التأويلات المُستنتَجة والمُستنبَطة منها ليست من الدين , وإنما هي أفهام أصحابها , وأفهام الناس ليست ديناً . فالدين يؤخذ بالقطعي اليقيني , ولا يؤخذ بالظن الاحتمالي . قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) , ونقل “ محمود أبو رية “ في كتابه أضواء على السنة المحمدية ص27 , نقلاً عن سيرة أبن هشام : أن رسول الله في مرضه الأخير الذي أنقلب بعده إلى ربه , وبعد أن نزلت الآية السابقة قال : إني والله ما تمسكوا علي بشي , إني لم أحل إلا ما أحل القرآن , ولم أحرم إلا ما حرم القرآن ... فنسأل ألله أن يلهمنا الرشد والصواب.