المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    خبير أرصاد يحذر: منخفض الهدير في اليمن ليس الأول ولن يكون الأخير (فيديو)    إصابة ثلاثة أطفال جراء انفجار مقذوف من مخلفات المليشيات بالضالع    نخبتنا الحضرمية... خط أحمر!    ضبط 54 متهمًا في قضايا جرائم جنائية    أول قيادي مؤتمري موالي للحوثيين بصنعاء يعزي عائلة الشيخ "الزنداني" في وفاته    تغير جديد في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    شعب الجنوب أستوعب صدمة الاحتلال اليمني وأستبقى جذوة الرفض    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    ليس وقف الهجمات الحوثية بالبحر.. أمريكا تعلنها صراحة: لا يمكن تحقيق السلام في اليمن إلا بشرط    الحوثيون يراهنون على الزمن: هل ينجحون في فرض حلولهم على اليمن؟ كاتب صحفي يجيب    شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    الأمل يلوح في الأفق: روسيا تؤكد استمرار جهودها لدفع عملية السلام في اليمن    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    تشييع مهيب للشيخ الزنداني شارك فيه الرئيس أردوغان وقيادات في الإصلاح    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    مركز الملك سلمان يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في الجوف    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    إعلان موعد نهائي كأس إنجلترا بين مانشستر يونايتد وسيتي    مفسر أحلام يتوقع نتيجة مباراة الهلال السعودي والعين الإماراتي ويوجه نصيحة لمرضى القلب والسكر    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    إنزاجي يتفوق على مورينيو.. وينهي لعنة "سيد البطولات القصيرة"    "ريال مدريد سرق الفوز من برشلونة".. بيكيه يهاجم حكام الكلاسيكو    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    تراجع هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.. "كمل امكذب"!!    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خرافة حدّ الردة
نشر في الجمهورية يوم 11 - 04 - 2014

تقدّم الرسالات السماوية نفسها إلى الناس بوصفها حلاً لمشكلات فردية واجتماعية كثيرة، ثم لا تلبث أن تتحول هذه الرسالات نفسها إلى مشكلات، على أيدي الأتباع. وهناك سمة ثابتة ترافق هذا الانقلاب هي سمة التحريف. حتى يمكنك القول: إن تاريخ الرسالات السماوية هو نفسه تاريخ التحريف، على اختلاف في طبيعة هذا التحريف، ونسبته، ودوافعه، من رسالة إلى أخرى.وعادة ما تسهم الظروف التاريخية في إنجاح هذا الانقلاب، وتحويل الرسالة من الحالة السماوية إلى الحالة المحلية. ويتم ذلك بإدخال عناصر من الثقافة المحلية الوضعية إلى متن الرسالة السماوية، وإسقاط عناصر أخرى غير مرغوبة من المتن السماوي.
كان هذا هو قدر الرسالات السماوية جميعاً، وهو القدر الذي طال رسالة النبي محمد(ص) أيضاً، مع فارق جوهري بين التحريف الذي وقع للرسالة المحمدية وما سبقها من رسالات، هو بقاء المتن السماوي (القرآن) محفوظاً دون زيادة أو نقصان. في حين اكتفى الأتباع بإضافة نص آخر موازٍ له إلى دائرة الرسالة المحمدية، أطلقوا عليه اسم “الحديث النبوي” وزعموا أنه جزء من الرسالة التي كلف النبي بإبلاغها للناس. ذلك في جانب الإضافة، أما في جانب النقصان فقد ابتدعوا من الآليات الفقهية ما يعطل كثيراً من أحكام القرآن الكريم وخاصة تلك الأحكام التي تتسم باللين والمرونة والسماحة - مثل آلية النسخ وآلية التخصيص وآلية التقييد، ..إلخ. وجعلوا الحديث المنسوب إلى النبي – على سبيل الظن وصياً كامل الصلاحيات على كلام الله، يخصص عمومه، ويقيد مطلقه، ويبين مجمله، وينسخ أحكامه عند البعض.
قلت: إن الشروط التاريخية التي تحكم سيرورة الرسالة كانت تسهم في إنجاح حالة الانقلاب التي تحدث للرسالات السماوية من الحالة السماوية الصرفة إلى الحالة المختلطة بالمحلية، وهذا أمر منطقي ومتوقع تماماً، ما دامت الرسالات السماوية تخضع لقانون الجدل(التأثير والتأثر) الذي يحكم الحياة برمتها. ومن تلك الشروط التاريخية التي أسهمت في حالة الانقلاب الإسلامي، تأخر عصر التدوين العربي إلى ما بعد منتصف القرن الثاني الهجري، ونشأة العلوم الإسلامية على أسس غير علمية لأسباب منها غياب الحس الفلسفي للقائمين عليها. مع ما رافق ذلك من شيوع الكذب على النبي محمد ووضع الأحاديث على لسانه بصورة هستيرية بلغت حداً فلكياً، جعل فقيهاً مثل سفيان الثوري يقول: إن نسبة الحديث الصحيح إلى الحديث المكذوب كنسبة الشعرة البيضاء إلى جلد الثور الأسود.
وبتأخر عصر التدوين عاش المسلمون فترة طويلة يتناقلون فيها معارفهم الدينية شفاهاً، وفي الثقافة الشفاهية يتخلق العقل الشفاهي. والعقل الشفاهي بطبيعته يميل إلى التفكير الذري، أي التفكير في الأجزاء المنفردة لا في الأنساق الكلية المركبة. وهذا النوع من التفكير يصعب عليه ربط العناصر المنفردة ببعضها وربط المركب منها بأنساقه التجريدية، وهو ما يفسر لنا بناء العلوم الإسلامية على أسس عملية لا علمية. ويتجلى ذلك بوضوح في علمي التفسير والنحو العربي. أما التفسير فقد كان طوال الوقت تفسيراً “موضعياً” لا “موضوعياً”، يتعرض فيه المفسر للسورة تلو الأخرى، فيشرح الآية تلو الآية في موضعها، ولا يجمع الآيات ذات الموضوع الواحد في مبحث واحد شامل، وهذا يجعل الموضوعات القرآنية ممزقة بين السور المختلفة. وإذا كان لهذا حكمة في التنزيل، فليس له أية حكمة في عملية التأويل.
أما علم النحو العربي فقد حكمته منذ البداية أغراض عملية خالصة، أبرزها مقاومة اللحن الذي فشا على ألسنة الداخلين في الإسلام من أبناء الثقافات غير العربية، وهذا ما جعل النحو بكامله يقوم على أساس نظرية “العامل” التي تستهدف فقط - ضبط - أواخر الكلمات العربية، مما دفع بالنحو العربي بعيداً عن المسار العلمي الصحيح، وكان من ثمرات هذا الخطأ النوعي في تأسيس علم النحو أن تعقد هذا العلم وضعفت فاعليته الدلالية، نتيجة فصله عن علم المعاني من جهة، ونتيجة الشروخ التي خلفتها نظرية العامل في بنيانه من جهة أخرى، وهي شروخ حشاها العلماء بمقولات صورية لا صلة لها بمنطق اللغة عامة، ولا بمنطق اللسان العربي على وجه الخصوص.
ليس حديثنا الآن عن مشكلات التراث والعقل العربيين بالطبع، وإنما هي مقدمة سريعة تفسر واحدة من أخطر مخرجات هذا القصور في جانب الحياة العقلية العربية عامة وفي جانب الدراسات الإسلامية على وجه الخصوص. ألا وهي مسألة عقوبة الردة في الفقه الإسلامي. ومن المناسب قبل الشروع في التحليل أن نذكّر بعبارة الفقيه المالكي “الحجوي” الفاسي التي تقول إنه: بوفاة النبي محمد اكتملت الشريعة وابتدأ الفقه. فنحن إذن بصدد مناقشة قضية من قضايا “الفقه” الإسلامي لا قضية من قضايا “الشريعة” الإسلامية كما يظن إخواننا الافتراضيون في الطرف الآخر من هذا الجدل المعرفي.
وأول ما ينبغي التنبيه إليه في سياق الحديث عن عقوبة الردة في الفقه الإسلامي هو أنها ليست من مسائل الإجماع عند الفقهاء، لا من الإجماع الذي قام على نص ولا من الإجماع الذي قام على اجتهاد. فقد جرى حولها جدل علمي معروف بينهم، وخاصة عند فقهاء العصر الإسلامي الحديث. فكان منهم من أنكرها تماماً أو عدها عقوبة تعزيرية ذات طابع سياسي لا عقائدي. وكان جمهور الفقهاء الذين اتفقوا على قتل المرتد قد اختلفوا هل تترك له فرصة للتوبة أم لا، ثم اختلف الذين قالوا بضرورة استتابة كم يستتاب، مرة أم مرتين أم ثلاثاً، أم يستتاب أبداً كما قال النخعي. كما اختلفوا هل تقتل المرتدة كالمرتد أم لا تقتل؟ فكان رأي الشافعي أنها مثل الرجل سواء بسواء، وكان رأي أبي حنيفة أنها لا تقتل.
إلا أن طائفة أخرى من الفقهاء قد أنكروا هذه العقوبة جملة، وهو الرأي الذي “يستشف من مواقف بعض المتقدمين كالسرخسي وابن القيم. وذهب إليه كثير من المحدثين مثل الإمام محمد عبده، والشيخ عبد المتعال الصعيدي، وعبد الوهاب خلاف، وأبي زهرة، والشيخ عبد العزيز شاويش. ومن رجال القانون الدستوري فتحي عثمان، ود. عبد الحميد متولي، وعبد الحكيم حسن العيلي، ود. حسن الترابي، ود. محمد سليم غزوري”. كما اختاره أيضاً الدكتور طه جابر العلواني، والدكتور راشد الغنوشي والأستاذ جمال البنا، وغيرهم من فقهاء ومفكري التيار الإسلامي المعاصر. وكان ابن حزم قد ذكر عمر بن الخطاب في الذاهبين إلى هذا الرأي والفائدة التي نخرج بها من هذه الحقيقة، حقيقة أن مسألة الردة من مسائل الفقه لا من مسائل الشريعة، هي أنها من مسائل الرأي والاجتهاد، التي لا يجوز فيها لطرف أن يشنع على طرف آخر كما تقول القاعدة الأصولية “لا إنكار في محل الخلاف”. هذا من حيث المبدأ، أما عند التفصيل فإن الأحكام الاجتهادية التي يترتب عليها ذهاب حق من الحقوق الإنسانية، أو يترتب عليها مساس بسلامة أصل الدين، فإنها تسقط وفق قواعد أصولية أخرى، مثل قاعدة درء الحدود بالشبهات، وقاعدة الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وقاعدة دفع المفاسد مقدم على جلب المنافع. وهي القواعد التي تم استقراؤها من مجمل النصوص الدينية.
وبمحاكمة مسألة عقوبة الردة إلى القواعد والمبادئ الماضية المتفق عليها بين الفقهاء يتبين إلى أي حد هي ساقطة وغير جديرة بالاعتبار: فأولاً، هذه العقوبة تجني على حقين من حقوق الإنسان، الأول حق الحياة الذي كفلته الشريعة للناس كافة، والآخر حق الإنسان في فرصة كافية للعودة إلى الصواب بتراخي الوقت، لأن معاجلة المرتد عن الدين بالقتل، يقطع الطريق أمام عودته إلى الحق في مستقبل أيامه، وقبل وفاته الطبيعية. ولا يقال هنا إن الاستتابة كافية في ذلك، لأن الإنسان قد يصر على موقفه اليوم نتيجة معطيات معينة بين يديه، ثم يعدل عن موقفه غداً إذا استجدت لديه معطيات أخرى بحكم قوانين الصيرورة، وهو ما حدث مع كثير من المثقفين العرب الكبار في العصر الحديث على وجه الخصوص. كعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود، ومصطفى محمود، وربما سيد قطب، وغيرهم ممن تحول من حالة الإلحاد أو حالة الشك إلى حالة الإيمان، حتى أصبح بعضهم علماً من أعلام الإيمان بعد ذلك.
وثانياً، هذه العقوبة تتسبب بأضرار معنوية كبيرة للدين الإسلامي نفسه، حين تصبح ذريعة للتندر عليه من قبل خصومه، والتشكيك في أصالته السماوية. هذا فضلاً عن المقارنة الحرجة له مع الديانات الأخرى، أو حتى مع المذاهب الوضعية نفسها، حيث تبدو هذه الأديان والمذاهب أكثر منه تسامحاً ورقياً في مجال حقوق الإنسان. مما يعني أن هذه العقوبة تقوم بدور الصاد عن سبيل الإسلام، ولا تحقق أي فائدة مرجوة منها. وحتى ذلك المبرر السطحي الذي يقدمه أنصار القتل لهذه العقوبة بقولهم إنها تردع العبث بالإسلام وأهله، تبدو سخيفة للغاية، إذا ما علمنا أن العقوبة لا تحقق سوى نتيجة واحدة، هي تكثير سواد المنافقين ممن يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام في المجتمع الإسلامي. وهو أسوأ ما يمكن أن يبتلى به مجتمع في تاريخه. وهذه المفاسد المتحققة أكبر بكثير من المنافع المرجوة من إقامة هذه العقوبة. وكان ينبغي النزول عند القاعدة الأصولية التي تقول إن دفع المفاسد مقدم على جلب المنافع، لأنها قاعدة متفق عليها، بينما عقوبة الردة مسألة مختلف فيها، وتقديم المتفق عليه أولى من تقديم المختلف فيه، في منطق العقل ومنطق الدين.
وثالثاً لأن هذه العقوبة تخرم قاعدة أخرى متفق عليها هي قاعدة درء الحدود بالشبهات، التي لقيت قبولاً حسناً عند رجال الفقه ورجال القانون طوال التاريخ الإسلامي. والشبهة هنا ليست في الواقعة الفعلية بل في الحكم نفسه. إننا في أقل الأحوال أمام حكم تطوقه الشبهات من كل اتجاه، مما يعني أنه من الأحكام الظنية. ومن العبث الكبير أن نقيم أحكاماً في الدماء على أسس ظنية يدخلها الشك والاحتمال. ومن المعلوم أن هذه العقوبة لم تبن على مستندات قرآنية لا بالنص ولا بالتأويل، وإنما بنيت على روايات منسوبة إلى النبي يأمر فيها بقتل المرتد عن دينه. وبالرغم من أن نصوص الحديث هذه جاءت عامة تشمل كل مرتد عن دينه، بمن فيهم المرتد عن غير الإسلام إلى الإسلام مثلاً، إلا أن الفقهاء قد جعلوها خاصة بالمرتد عن الإسلام فقط. وهو تخصيص يقبل الأخذ والرد حول صحته من عدمها، مما يجعل المسألة تزداد ضعفاً إلى ضعفها. هذا فضلاً عن مخالفتها لفلسفة العقاب الناتجة عن استقراء القرآن الكريم. إذ يبدو واضحاً أن الآيات التي نصت على عقوبات دنيوية في القرآن الكريم قد جاءت لحماية حقوق الناس وحسب. وليست هناك عقوبة واحدة نص عليها القرآن لحماية حقوق الله..!.
وتزداد شرعية هذه العقوبة ضعفاً إذا ما علمنا أنها وردت بنصوص حديثية غير متواترة، مما يجعلها ظنية الثبوت إلى جوار كونها ظنية الدلالة كما رأينا من قبل. وقد زعم أنصار عقوبة الردة أن أحاديثها ثابتة بالتواتر وهو زعم خاطئ، ناتج عن جهل معظمهم بحقيقة مفهوم التواتر لدى الفقهاء الأولين. فالتواتر عند الشافعي – مثلاً – هو نقل الكافة عن الكافة في كل جيل، في حين أن المحدثين والمتأخرين من الأصوليين – لما عجزوا عن إثبات هذا المستوى من التواتر – ذهبوا يطلقون هذا الوصف على الروايات التي كثرت أسانيدها بالجمع من هنا وهناك. وهذا وجه من وجوه التدليس الكثيرة التي أتقنها القوم في هذه الأوساط.
إن كلاماً كثيراً يمكن أن يقال في تفنيد دعوى حد الردة هذه، إلا أننا – من باب الإنصاف مع خصومنا – لن نستند إلى ما يلزمنا من الحجج، كالقول بأن الحديث برمته ليس حجة شرعية، لأنه ليس من رسالة النبي محمد بل من سيرته إذا صحت نسبته، كما نعتقد، وإنما سنحاورهم بما يلزمهم هم، وبما هو حجة عليهم، سنحاورهم بمنطق الفقهاء الأصوليين، ووفق قواعدهم المعتبرة لدى السلفيين جميعاً. وهو ما فعلناه في معظم السطور الماضية، وما سنفعله في السطور التالية، حيث سيتم محاكمة هذه المسألة – بعد تحليلها - إلى القواعد الأصولية المعتبرة لديهم كما أسلفت، ووفق المنهج المتبع في
أوساطهم المعرفية.
من المعلوم لدى الفقهاء جميعاً أن القرآن الكريم هو مصدر التشريع الأول، وهو الذي يمنح الشرعية لما سواه من المصادر أو يسلبها. وأحكامه بالنسبة إلى أحكام ما عداه هي بمثابة المواد الدستورية بالنسبة إلى القوانين العادية. هذا على المستوى النظري، أما على مستوى الواقع العملي فقد كان الحديث المنسوب إلى النبي هو بمثابة حكومة الظل الخفية، في النظام السياسي الضعيف، كما أشرنا من قبل. فهو المخصص والمقيد والمبين والناسخ. والقرآن هو الفقير إلى التخصيص والتقييد والتبيين والنسخ، تحت ذريعة أن القرآن نفسه قد أذن بذلك. فإذا بحثت عن هذا الإذن وجدت قرآناً صامتاً ينطق به الناس، كل على حسب فهمه وهواه. وما حد الردة المزعوم إلا مثل شرود على عمليات التعطيل التي شنها الفقهاء ضد القرآن الكريم تحت ذرائع علمية واهية. فقد كان يكفي القرآن أن ينص صراحة على حرية الاعتقاد وعدم جواز الإكراه في الدين كما فعل في قوله تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة256). لولا أن أدوات التعطيل قد قامت بواجبها أسوأ قيام على التفصيل الآتي: في البدء زعموا أن هذه الآية ومثيلاتها من منسوخات القرآن الكريم، لكن آخرين فيهم فندوا هذا الزعم حتى قال قائلهم (ابن عاشور في التحرير والتنوير) إنها ناسخة لا منسوخة، لأنها من أواخر من نزل من القرآن، مما جعل جمهورهم يقر بهذه الحقيقة ويعترف بعدم النسخ. لكن المعركة لم تنته بعد بالنسبة للمعطلين، فإذا لم تفلح آلية النسخ فإن لديهم آلية أخرى تعمل عمل النسخ وتسمى بغير اسمه، هي آلية التخصيص. وما التخصيص إلا نوع من أنواع النسخ كما يقول الفقهاء، لكنه نسخ يطال أجزاء الأحكام لا كليتها. فالآية - كما هو واضح - من ألفاظ العموم، التي يقول فقهاء اللغة إن الحكم فيها يستغرق جميع أفرادها ما لم يرد دليل على التخصيص. أي أن جميع أفراد الإكراه ممنوعة في جميع أفراد الدين. وليس هناك سوى ثلاثة أفراد من الإكراه في هذا المجال هي: الإكراه على دخول الدين، والإكراه على الخروج من الدين، والإكراه على البقاء في الدين.
وقد اعترف المعطلون – نوعاً ما - بالنوعين الأولين، وزعموا أن الأحاديث المروية عن النبي تستثني تخصص النوع الثالث (الإكراه على البقاء في الدين). لكنهم فوجئوا بحقيقة مزعجة هي أن العبارة القرآنية من ألفاظ العموم التي لم تخصص، لعدم وجود قرينة لفظية أو عقلية تخرجها من العموم إلى الخصوص. وهذا النوع من العبارات – كما يقول الأصوليون - لا يجوز تخصيصه إلا بدليل يساويه أو يرجحه في القطعية أو الظنية. والحديث النبوي – باتفاق – لا يساوي القرآن في هذه الجانب ولا يرجحه، لا من جهة الحجية ولا من جهة الثبوت. فهل استسلم القوم المعطلون؟.. كلا لم يستسلموا، فقد خسروا معركتين لكنهم لم يخسروا الحرب. فما خطوتهم القادمة يا ترى؟..
لقد بقيت فرجة واحدة في المسألة لم تسد بعد، تسللوا منها وخرجوا بالنتيجة الآتية: إن “استقراء النصوص الشرعية التي وردت فيها ألفاظ العموم قد دل على أنه ما من عام إلا وخصص، وعلى أن العام الذي بقي على عمومه نادر جداً، وما استفيد بقاؤه على عمومه إلا من قرينة صاحبته”. ويترتب على ذلك أن دلالة ألفاظ العموم على أفرادها ظنية، ومن ثم صحة تخصيص العام (الآية) بالدليل الظني (الحديث لأنه ظني الثبوت على الأقل) لأن الظني يخصص بالظني. وصلّى الله وسلم.
بينما ذهب فريق آخر منهم إلى أن العام الذي لم يخصص بالقرائن اللفظية أو العقلية يظل قطعي الدلالة على أفراده. ويترتب على ذلك عدم جواز تخصيص القطعي بدليل ظني، لأنهما متعارضان، والتعارض متحقق بين العام الذي لم يخصص، وبين الخاص القطعي لأنهما قطعيان. وحجتهم فيما ذهبوا إليه هي “إن اللفظ العام موضوع حقيقة لاستغراق جميع ما يصدق عليه معناه من الأفراد”. فالعام المطلق عن قرينة تخصصه يدل على العموم قطعاً، ولا يصرف عن معناه الحقيقي إلا بدليل. واستدلوا على ذلك بعمل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين.. فما ثمرة هذا الخلاف يا ترى؟..
نستطيع الخروج من هذا الجدل الفقهي الخاطف بالملاحظات النقدية الآتية:
أولاً: لقد اختلف القوم على صفة دلالة ألفاظ العموم على أفرادها هل هي قطعية أم ظنية، وقدم كل فريق حججه وبراهينه، فاستدل الأولون باستقراء النصوص الشرعية، واستدل الآخرون بأعمال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين. والشيء المؤسف في هذه العملية هو أن الطرف الأول قد ذهب يقعد لمسألة لغوية بطريقة غير لغوية. فالنصوص الشرعية التي زعم استقراءها ليست وحدها نصوص اللسان العربي الذي كان ينبغي استقراؤه، بل كان ينبغي أن يكون التقعيد ثمرة استقراء شامل لجميع النصوص والمنطوقات اللغوية الممكنة في عصر الاستشهاد اللغوي عند العرب. هذا فضلاً عن أن معظم هذه النصوص التي زعموا استقراءها (الحديث النبوي تحديداً) ليس من نصوص اللسان العربي التي يجوز الاستشهاد بها في مجال التقعيد اللغوي، كما يقول أهل اللغة في القرون الستة الأولى. وهو ما يعني أن الاستقراء الذي تم من قبل الطرف الأول كان ناقصاً. ولا يجوز أن نرتب أحكاماً لغوية على الاستقراء الناقص، فما بالك بما يترتب عليها من أحكام تطيح بالرقاب وتسلب الحياة من أصحابها.
ثانياً: ارتكب أنصار القتل حيلة استدلالية ماكرة، حين قالوا: إن دلالة العام على أفراده، ودلالة الحديث النبوي قطعية، ويجوز أن يخصص الظني بالقطعي. ووجه الحيلة هنا أنهم تحدثوا عن القطع والظن من حيث الدلالة، وأهملوا الشرط الأساس الذي يبنى عليه، وهو القطع أو الظن من حيث الثبوت والحجية. لقد أرادوا أن يحققوا الشرط المتفق عليه في التخصيص، وهو شرط أن يكون المخصص (بالكسر) من نفس مقام المخصص (بالفتح) في القطعية والظنية. ولأنهم يعلمون أن الحديث لا يساوي القرآن من هذه الناحية لا في حجيته ولا في ثبوته، مما يعني عدم جواز التخصيص، فقد حاولوا ذر الرماد على العيون بتخصيص الدلالة الظنية في الآية - حسب زعمهم - بالدلالة القطعية في الحديث. في حين أن الذين وضعوا قاعدة التخصيص قصدوا الحجية والثبوت في المقام الأول، ولا قيمة للدلالة من دون ذلك، وإلا أصبح الباب مفتوحاً لتخصيص آيات القرآن بكلام أي بشر، لأن في كلام البشر ما هو قطعي الدلالة وفي القرآن ما هو ظني الدلالة، فهل يقبل أنصار القتل هذه النتيجة؟!..
ثالثاً: تصور معي عزيزي القارئ حجم الورطة التي وقعنا فيها إذا لم تحسم هذه المسألة الخلافية الدقيقة بين الفقهاء. تصور أن مصير عشرات المحكومين بالإعدام – بسبب ردتهم - متوقف على حل الخلاف بين الأصوليين حول ما إذا كانت دلالة العموم على أفرادها تفيد القطع أم الظن، وهل يجوز تخصيص القطعي بالظني أم لا..!. إن ما يفعله أنصار حد الردة حين يسارعون إلى تنفيذ هذه العقوبات قبل حسم مقدماتها العلمية، يحقق مغزى النكتة الواقعية التي تقول: إن أحدهم اتصل بالمفتي الصنعاني (فلان) وسأله: ما حكم شرب النبيذ؟. وكان هذا المفتي يرى جواز شرب النبيذ على مذهب أبي حنيفة، وقيل كان يشربه. فجاء جوابه للسائل كالمعتاد: لقد اختلف العلماء في شأنه. لكن السائل اللحوح لم يتوقف عند حد، فذهب يسأل المفتي: وماذا تنصحني أن أفعل؟. فما كان من المفتي إلا أن قال: اشرب إلى أن يتفقوا..!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.