(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة:256). تعد هذه الآية أهم وأقدم نص ديني في مجال حقوق الإنسان، يقرر بكامل الوضوح والبلاغة حرية الإنسان في مجال العقيدة. كما تعد المستند الأساس للقائلين ببطلان ما يسمى بحد الردة، إلى جانب أدلة أخرى إيجابية وسلبية من نحو: 1 - إغفال القرآن الكريم لذكر أي عقوبة دنيوية للمرتد عن الإسلام بالرغم من تعدد ذكر حالة الارتداد نفسها في عدد من الآيات نحو قوله تعالى في خطاب الصحابة: “ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ “ (البقرة:217). فقد قررت الآية إمكانية وقوع الارتداد من المؤمنين، ولكنها أغفلت ذكر عقوبة الارتداد في الدنيا، وحين يغفل القرآن ذكر شيء في المحل الذي كان ينبغي فيه أن يذكر، فإن لذلك دلالة من نوع ما، وهذا ما ينبغي أن نعتقده في حق كتاب معجز بليغ جاء بياناً للناس، يتحدث متكلماً وصامتاً. ومما يدل على أن إغفال ذكر عقوبة دنيوية للمرتد كان مقصوداً، ذكر القرآن لعقوبات دنيوية على ذنوب هي أدنى بكثير من ذنب الارتداد، كعقوبة السرقة وعقوبة الزنا، وعقوبة الحرابة. وليس في منطق العقل ما يقبل ذكر العقوبة الأدنى دون الأكبر، إلا أن يكون ذلك لحكمة ما. 2 - وهذا يقودنا إلى دليل آخر على بطلان ما يسمى بحد الردة وهو دليل الاستقراء في النص القرآني. فقد دل الاستقراء في القرآن الكريم على فلسفة إسلامية خاصة في قانون العقوبات، هي أن الجرائم نوعان، جرائم في حق الناس والمجتمع، وهذه لا بد من ردعها بعقوبات عاجلة في الدنيا، ليأمن الناس على حقوقهم وأنفسهم، وجرائم في حق الله، وهذه تؤجل عقوبتها ليوم الحساب. فالسرقة والزنا والحرابة جرائم اجتماعية تهدد حياة الناس ومصالحهم في الدنيا، ولهذا وجب تحديد عقوبات دنيوية عاجلة ورادعة لمقترفيها، أما مسألة الارتداد عن الدين الحق فهي جريمة في حق الله، وقد شاءت حكمة الله أن يترك للمرتد فرصة في الدنيا كافية لمراجعة نفسه وتصحيح خطئه، فربما عاد إلى الإيمان بعد أن يتبين له أنه الحق، وكم رأينا من مرتدين عادوا إلى رشدهم فحسن إيمانهم، منهم على سبيل المثال الدكتور مصطفى محمود الذي نشر كتاباً في الخمسينيات بعنوان “ الله والإنسان “ سجل فيه كل قناعاته الإلحادية في تلك الفترة، ثم عاد الرجل إلى حظيرة الإيمان فقال في الدين وفي تفنيد الإلحاد ما لم يقله أحد، ولو أن المجتمع طبق على هذا الرجل عقوبة الردة بعد كتابه المذكور لقطعوا الطريق أمام عودته إلى الحق، وحرموا الإسلام والمسلمين من جهوده العظيمة في مجال العلم والإيمان. 3 - يضاف إلى ما مضى عدم وجود دليل شرعي قطعي الثبوت والدلالة في المسألة. فإذا سلمنا مع القوم بأن الحديث المنسوب للنبي حجة دينية ومصدر من مصادر التشريع فإننا لن نجد في هذا النص حديثاً متواتراً قطعي الورود في إثبات حد الردة المزعوم. ذلك أن دعوى التواتر نفسها لم تثبت لأي حديث منسوب للنبي (ص)، وهذا قول طائفة من المحققين من الأصوليين وعلماء الحديث منهم على سبيل التمثيل لا الحصر أبو إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات، وابن الصلاح صاحب مقدمة علم الحديث. ولا عبرة بادعاء القائلين بوجود تواتر في بعض روايات الحديث النبوي، لأن مفهوم هؤلاء للتواتر مخالف لمفهومه عند كبار المحققين والأصوليين من الفقهاء وأولي الألباب، فالشافعي مثلاً يفهم التواتر على أنه “نقل الكافة عن الكافة” تماماً كنقل الكافة - في كل جيل- للقرآن الكريم والصلوات الخمس، وهذا ما لم يقع لأي حديث منسوب للنبي (ص) باتفاق. أما التواتر الذي يعنيه هؤلاء فهو مجرد تكثير سواد طرق الروايات في المسألة الواحدة، بما تتضمنه محاولة التكثير هذه من تحطيب ليل وتلفيق نهار. وإن أشهر الأحاديث تواتراً عندهم حديث بلغت طرق روايته عن الصحابة حوالي المائة، ولا يخلو الرقم من مبالغة، فأين هذا من تواتر القرآن الذي نقله عدد لا يمكن حصرهم، فلم تذكر أسانيدهم؟!. مزيداً من التفاصيل الصفحات اكروبات