في العقود الأخيرة تم استخدام العيد، وبالأخص عيد الفطر كأداة لتعزيز الانتماء للعائلة والقبيلة والأرض، جاء ذلك متزامناً مع حالة التمدد المدني والهجرة من القرى إلى المدن الكبيرة في الجزيرة العربية، مما حدا بالأسر والعائلات أن تستغل موسم العيد لتذكير أبنائها بموطن آبائهم وأجدادهم الأصلي، وتداول حكايات زعماء القبيلة، وإحياء جذوة محبتها والحنين لأرضها، حتى لا تذوب في قلوب الأبناء الذي نشأوا بعيداً عنها، وتلقوا تعليماً وثقافة وهوية مختلفة عن تلك التي نشأ عليها أسلافهم. مع مرور الوقت، وارتباط هذه العادة الاجتماعية بالعيد، أدى الأمر إلى تشوه واضح في مفهومي «العيد»، و«صلة الرحم»، لأن هذه الطقوس الاجتماعية تأتي في صبغة إسلامية مرتبطة بختام شهر رمضان المبارك، فبدلاً من أن يصبح العيد وهو في التشريع الإسلامي وقت للفرحة، وإظهار السرور بأداء العبادة وإتمام الصيام، تحول العيد لواجب اجتماعي، وبروتوكول قَبَلي يتم فيه لم شمل أطراف “العائلة” المترامية التي توسع مفهومها لتشمل أناساً لا يربطك بهم شيء، إلا أنهم يحملون نفس اسم العائلة أو الفخذ أو القبيلة، وتُنتهك فرحة العيد بامتياز من أجل إرضاء الحرس القديم، وتقديم قرابين الابتسامات الصفراء، والمجاملات، وتأدية الولاء الاجتماعي في المرور على من تعرف ومن لا تعرف، لإلقاء السلام والتحية والتبريك بالعيد لكي تكون ابناً صالحاً منتمياً للأرض والقبيلة، ولو كان ذلك على حساب شخصيتك واستقلالك الفكري والاجتماعي، وهنا مكمن الالتباس والخلل، لا أحد يعيب أو ينتقص من التكافل والترابط الاجتماعي، بل المشكلة في تحول هذا الترابط إلى عبء وضغط على استقلال الإنسان وحريته، وقدرته على اتخاذ قرارته، وتحديد خياراته، أو حتى في التعبير عن أفكاره بحرية وسلاسة، فلم تعد الرحم للصلة والبر، بل أصبحت للتحكم والضبط والضغط. وبالأساس لو رجعنا إلى مفهوم “الرحم” الذي جاء التشريع الإسلامي بالتأكيد على صلتها، لوجدنا أن الرحم محصورة في فئة محدودة معدودة، لا تشابه أبداً الحالة التوسعية الهائلة الآن في فكرة الرحم، التي تحولت إلى نوع من المباهاة والمكاثرة والمفاخرة بالنفوذ والعدد، مع أن بعض الشراح فسروا مفهوم الرحم التي يجب وصلها بأنهم “المحارم” أي: الوالدان وإن علوا، والأبناء وإن نزلوا والإخوة والأخوات وأبناؤهم، والأعمام والأخوال فقط. هذا التوسع في مفهوم الرحم، وتعزيز الطقوس البروتوكولية المملة في الأعياد، ساهم في نفرة الجيل الجديد من هذه الأجواء التي لم تعد تناسبه، ولذلك لم يعد مستغرباً أن تكشف لنا الأرقام أن نصف مليون سعودي يقضون يوم العيد خارج السعودية، بعد أن أنهكتهم الواجبات الاجتماعية، وبددت فرحتهم، ودفعتهم للهروب. بطبيعة الحال فإن المدنية الحديثة، والتوسع العمراني، بالإضافة إلى الارتباكات الاجتماعية والسياسية، ساهمت في تعزيز حضور القبيلة والجماعة، وتقوية نفوذها، وبروز دورها في تشكيل هوية أبنائها، وتعزيز انتمائهم لها، خصوصاً في ظل العجز عن صياغة هوية مشتركة، يندمج فيها أبناء الوطن الواحد بكافة فئاته ومناطقه، وعلى النقيض من ذلك خلقت هذه الحالة من توسع فكرة الرحم وتضخم القبيلة في بروز جيل جديد متمرد، يهاجر بعيداً يرسم شخصيته بنفسه، يرفض القوالب الاجتماعية التقليدية القديمة، وهو ما سبب صراعات وأزمات اجتماعية متكررة، نتيجة للفجوة الكبيرة المتسعة بين الجيلين أو الثقافتين بالأصح، فالعمر هنا ليس محدداً بقدر ما يكون المحدد هو الانتماء لثقافة القبيلة والجماعة والتصالح معها أو رفضها والاستقلال عنها. حيث نرى ظاهرة أخرى لافتة أن من يروج لفكر القبيلة والعودة للجذور الأولى، ليسوا من كبار السن أو الشيوخ، بل ظهر جيل جديد من الشباب مهووس بالهوية القبلية، وتصميم المواقع الإلكترونية لها، والنبش في أخبار الأسر والأنساب، ورفع الشعارات الفئوية وربما النعرات العنصرية وبروزتها شعراً ونثراً ورسماً. وإلى ذلك الحين سنصير شعباً وطنياً وحداً كما يقول محمود درويش سنصير شعباً حين ننسى ما تقولُ لنا القبيلة.. حين يُعْلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرةْ… إن أردنا.