الحياةُ ملجأ أيتامٍ كبير.. والقلوب يتامى تجوع لكفٍ يمسح عنها الحزن, وهي مكسورة القلب تغرق في اليُتم ولا تفصح, سلبها ملجأ الأيتام الكثير, سرق منها في غياب وجوه الثقة وأبدلها الحذر المتوجس كفأر في مصيدة, إنما منحها الله قلبا يخترقه النسيم فعاثت فيه رياح التفرد تمزيقاً, آثرت الانطواء واكتفت أن تعيش مئات الأرواح الأخاذة وأن تجوب الدنيا في حجرتها قانعةً بالحذر المترقب كفأر حبيس في قلبها.. ذلك اليوم كان اليُتم يعتصر ساعاتها.. كانت تطارد في حقيبتها شيئا ما, يغافل أصابعها المرتبكة من الضجر, لتصدمها رائحة منبعثة من ورق ناعم ملفوف كيتيم يحتضر بعيداً عن الأنظار في جيب سري صغير.. هل أتى بها الهواء كي يمازحها ويرى شهقة الشوق الحزين على ملامحها المعذبة بحماقاتها العجيبة, أم تسلل الحنين من باب تركته مواربا كي يفاجئها من داخلها لا ينتظر سوى رائحة اخترعها عقلها وأفكارها المتسكعة في أروقة أيام ربما لم تعن لغيرها ما عنته لها.. ماذا ينتظر القدر منها, أن تمرغ أهدابها المبللة بالضعف على شرفاته المتعالية, هل تبكي رياءً وتعتذر كونها عاندته كثيراً, وهي الراغبة في المقاومة حتى آخر حرفٍ مغموس بحبر الدموع والألم. لقد اقتربت كثيراً من سذاجتها يوماً وكادت أن تقضي عليها في مواجهة مباغتة في موقف مؤثر.. ولكنها حلوة اللسان تلك السذاجة أوهمتها أنها خِل وفيَ ولن تخذلها أبداً وتوقِعها في ما لا ينسى أو تترك شرخاً في ذاكرتها تمتص كل ذكرياتها كثقب أسود في ذلك الرأس الملازم للخل الوفيّ.. حكايتها أنها ذات يوم أشرقت جوار الشمس كسحابة عابرةٍ, ولقد مرق في خيال السحاب العابر أن البقاء يدوم, وأنها لن تفيض دموعا حين تبقى مجرد ذكرى تروي الأرض.. هل يمكنها أن تتجاوز تلك الأيام أم أن الأيام تجاوزتها عنوةً؟, لا يمكنك وأنت ذاهب في طريقك خلال هذا الملجأ الكبير أن تتجاهل حفرةً عميقة تصادفك مبتسمة, ابتسامة واسعة كمثلث برمودا ثم تبتلعك و تلوكك ثم تلفظك كلا شيء بعد أن امتصت رحيق أمنياتك وأحلامك.. لكن هذه الأيام في حكم الأموات, مدفونة في ذاكرتها وتنشط عند أول لمحة تشبهها أو تنفخ فيها الروح.. هل كانت تلك الرائحة المنبعثة من منديل ورقيٍ نفخة روح أم إعلان وفاة لبعض سكينتها المدعاة..هل تجرؤ أن ترميه خارج قبره الصغير خارج حقيبتها, كي يشعر بمدى اليُتم هو الآخر, هل تعرف المناديل الورقية معنى الغربة واليُتم مثلنا..لكن تلك الرائحة كانت افتراضية فقط, لم تلمسها حواسها الغارقة في اليُتم يوماً, فلماذا تحمل هذا الخانع ذنباً, هو لا يعرف تضاريس الوجع, لقد أوقعته أقداره في حقيبتها في لحظة ضعفها هي, فلماذا ترميه في الٌيُتم نكاية لالتصاقه برائحة بلا جذور.. هي لن تلغي ذاكرة منديل ورقي عاش قصة لا يعرفها واقترب كثيراً من صدرها وشفتيها وكان لهما ذكرياتٍ حميمةٍ.. لكنه يبقى شاهدا على مجازر الشوق والحنين, شاهداً ينطق برائحة كانت ساطور يقطع رؤوس الراحة والنسيان.. كان قاتلاً هذا المنديل الورقي الخائن, يتربص بها كلما فتحت حقائبها وينقض متسللاً إلى رئتيها ويختلط بأنفاسها ثم يبعثرها كالوهم.. سيبقى شاهداً على سقطةِ جنون ولحظة ضعف.. أخرجته أناملها, تأملته كثيراً.. كم يبدو مثيراً للشفقة, مهترئا وحزينا كقصة حب ناقصة الأركان, أو كطفل لفظه رحم الأم ولم يكتمل, كان يبدو متعباً ومنهوك القوى, لطالما اعتصرته شفتاها في قبلة مخنوقة..تأملته كثيراً.. إنما لم تجرؤ أن تستنشق أنفاسه.. هل تمسح به آخر قطرة دمع تبكي يُتمها؟, قبل أن تهديه للريح قبراً جديداً أم تشفق عليه من الاحتراق بكاءً, هل تعيده إلى قبر رئتيها؟.. ربما لا يرغب في العودة, ربما هو سعيدٌ بهذا الانعتاق.. ربما هو أيضاً كَرِه رائحته المختلطة بأنفاسها.. أودعته الريح.. وعادت إلى حقيبتها..