من غير المنطقي أن يتحول الوطن من واحة حب إلى ساحة حرب.. من خميلة إيمان إلى جمرة أحزان.. من سجادة للصلاة إلى مقصلة للموت.. من غير المبرر والمعقول أن تسيل الدماء ويفقد الناس شعورهم بالانتماء.. من غير الطبيعي أن يتنكر البعض للوطن وينساقوا وراء الدسائس والفتن.. لمصلحة من كل هذا الغثاء.. وكل هذا الغباء وأي مستقبل ينتظر الناس إذا ما وقعت الفأس في الرأس وغيب وجه الوطن.. من الإيمان الأوطان أقدم من الإنسان.. الأرض وجدت قبل وجود الدين أي دين كان... الأرض وجدت قبل وجود الدول.. الوطن بأرضه وسمائه بوديانه وجباله بمائه وهوائه بخيراته وثرواته هو الحاضن الطبيعي والقاسم المشترك لكل أشكال الحياة نباتية أم حيوانية أم إنسانية لذلك كان الوطن ولا يزال انتماءً فوق الانتماءات ورابطة فوق الروابط وولاء فوق كل ولاء..إنه ساحة الحياة لآلاف الأجيال التي مضت وآلاف الأجيال التي ستأتي لذلك لا غرابة أن يكون حب الوطن من الإيمان وحمايته والذود عنه من أقدس واجبات الإنسان.. الوجه الأجمل الوطن إذاً هو المظلة الكبيرة التي يستظل بظلها الجميع دون استثناء.. الوطن والحياة وجهان لحقيقة واحدة فلا حياة بلا وطن ولا وطن بلا حياة.. ألم يقل الشاعر: وهو ينظر إلى الوطن بمرآة النفس.. وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي ألم يذهب آخر إلى حد التضحية بروحه من أجل الوطن: فتشت عن هبة أحبوك يا وطني فلم أجد لك إلا قلبي الدامي هذا هو الوطن شقيق النفس وقرين الروح.. هذا هو الوطن الحبيب الأجمل والحنين الأبقى والشوق الدافق والوجه الأجل والغاية الأسمى والراية العليا والصوت المسموع والعلم المرفوع والاسم المعروف والنشيد المعزوف.. هذا هو الوطن والبلاد والعباد الشاهد المشهود.. الوالد والمولود.. الصغير والكبير الغني والفقير.. الحاضر والغائب إنه الوطن ولا شيء أكبر من الوطن.. باسم الوطن الانتماء إذاً لحزب سياسي أو قبيلة ما أو منطقة أو طائفة لا يجيز بأي حال من الأحوال استهداف السلم والأمن الاجتماعي ولا العقد الاجتماعي فعلى حد تعبير عبدالله عثمان، أستاذ جامعي فإن العقد الاجتماعي المتمثل بالانتماء للوطن الواحد هو الأرضية الأساسية التي تبنى عليها مختلف العقود والعهود والولاءات والانتماءات وأيضاً العلاقات والنشاطات المحيطة فشهادات الميلاد الممنوحة للمواليد لا تمنح إلا ممهورة باسم الوطن وحتى قسائم الزواج التي يتم بموجبها تشكيل العائلات هي الأخرى صادرة ومصانة بشكل يعزز الانتماء للوطن قبل الانتماء للأسرة المراد إنشاؤها .. لقد تغير الزمان وتغيرت معه صور الحياة اليومية وأشكالها فصارت البطاقة الشخصية هي وثيقة انتماء للوطن وصار الجواز مفتاح العبور بين الأوطان حتى المعاملات التجارية والاتصالات الدولية وطرق المواصلات لا يتم إجراؤها؟ إلا بتأكيد الانتماء للمعالم والمسميات والمحددات الجغرافية للأوطان. فوق القبيلة الوطن إذاً هو الإطار الأكبر الواجب الالتفات إليه والمحافظة عليه فحين تتحرك قبيلة ما أو مجموعة تحالفات ومصالح قبيلة عكس اتجاه الوطن وسعياً في خرابه ينبغي التحرك السريع لإيقاف هذا العبث والتأكيد على أن الوطن أكبر من القبيلة أو فوق القبيلة كما يذهب إلى ذلك جبران شمسان “ باحث وأديب تربوي” حيث يرى أن القبيلة منظومة اجتماعية وليست منظومة سياسية وليست بالبديل السياسي وإذا كانت متغطرسة أو عصية فإن حلولها السياسية تكون في نظرها هي الحرب وهي بحسب ما يرى ترفض الحوار وتعده ضعفاً ومنقصة وتنظر إليه باستعلاء محقرة من شأنه إلا إذا كان بمقابل مالي أو شروط ورابطتها هي الدم والنسب القريب قبل اللغة أو الدين والتاريخ المشترك للشعب أو الأمة مؤكداً أن الشعب يجب أن يكون متماسكاً على أساس المواطنة وليس على أساس القبيلة. جبران شمسان يرى كذلك أن دور القبيلة في تاريخ اليمن الحديث لم يكن على المستوى اللائق، فالقبيلة هي التي انقضت على ثورة 1948م الدستورية وهي التي شنت حرباً ضروساً على النظام الجمهوري لسنوات عديدة، كما خلفت أحداثاً مأساوية عقب خروج المستعمر البريطاني.. القبيلة حالياً مدججة بمختلف أنواع الأسلحة، وهو أمر يتنافى وفاعلية الوطن وحضوره وأمنه واستقراره، فالقبيلة التي ماتت في أوروبا وضربت في تركيا ومصر لا تزال في اليمن تشكل تحدياً كبيراً يعيق استقرار الوطن وانصهار فئاته وتحويله إلى قبيلة واحدة قوامها الانتماء للوطن الواحد والمستقبل الواحد.. شمسان يمضي إلى القول بأن القبيلة برموزها الاستهلاكية تثقل كاهل الدولة وتأخذ منها ولا تعطيها، آملاً أن يتم وضع حد طبيعي لطغيان القبيلة وسلاحها المتعاظم، وأن يتم إعادة النظر في ميزانية شئون القبائل التي تكلف الدولة أكثر من اللازم. فوق الأحزاب في الاتجاه ذاته يجب التأكيد أيضاً أن الوطن فوق الأحزاب، فالأحزاب هي الأخرى تحولت من أدوات للفعل السياسي السلمي الخلاق إلى قبائل متناحرة ومتصارعة تجمعها روابط سياسية ومصالح ضيقة حجبت الأنظار. كما يؤكد قائد نعمان ناشط حقوقي رؤية المصالح الوطنية العليا والحفاظ عليها بما يحقق أمن واستقرار الوطن والوصول بسفينته إلى بر الأمان، وبأجياله إلى مستقبل أفضل، فلم يجد الناس من الأحزاب إلا الشعارات والخطابات والوعود والعهود لكن على أرض الواقع، الوطن ينزف بغزارة وتحدق به الأخطار من كل جانب، بينما الأحزاب لم ترك ساكناً بل تمادت أكثر وأكثر في مماحكاتها السياسية وصراعاتها وإصرارها على تقاسم المصالح والتمسك بالمناصب السياسية ما سيضعها حتماً في موضع المساءلة التاريخية عن كل ما حدث وسيحدث للوطن من مآس وويلات لا سمح الله.. نعمان يؤكد كذلك أن الفرصة لا تزال مناسبة لتلافي الموقف واستدراكه وتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية والولاء الوطني على الولاء الحزبي، والوقوف صفاً واحداً لحل جميع مشكلات الوطن وتضميد جراحه، والقضاء على أسباب وبؤر الصراع الناشئة وحمايته من الأخطار المحيطة، ومن المؤامرات الداخلية والخارجية على حد سواء فإذا غرقت سفينة الوطن فلا أحد سينجو بفعلته وسيلحق العار بكل من كان سبباً بشكل مباشر أو غير مباشر في غرق السفينة وإغراقها في أتون الصراعات التي لا تبقي ولا تذر. مؤسسة لكل الوطن وبحسب طرح النقيب محمد عبدالله حاتم فإن الولاءات الحزبية تؤثر بشكل سيئ على أداء الأجهزة الأمنية ومنتسبي الجيش والأمن وتقحمهم في الصراع السياسي والحزبي وما صاحب ذلك خلال الفترات الماضية من سلوكيات سلبية تمثلت في غرس الولاءات الحزبية داخل مؤسسات الجيش والأمن وإخضاع الحقوق المكتسبة للعسكريين للمزايدات الحزبية وإدراجها ضمن برامج الأحزاب للتغرير عليها في المواسم الانتخابية ما أوجد ولاءات حزبية وكان مدعاة لإحياء النزعات العنصرية والقبلية والطائفية والمناطقية. النقيب حاتم يبدي ارتياحاً كبيراً لمخرجات الحوار التي توصل إليها فريق بناء أسس الجيش والأمن فيما يخص إلغاء المشاركة السياسية للعسكريين في الحياة الحزبية بالترشح والتصويت في الانتخابات ما يحفظ للمؤسسة العسكرية حياديتها في الحياة السياسية ويبقي عليها كمؤسسة وطنية لكن الوطن بلا استثناء. ذمم للبيع الفساد المالي والإداري وتضخم هذه المنظومة وتعاطيها مع الواقع بشكل سلبي أوصل الأمور إلى حد لا يطاق وخلق ولاءات وانتماءات وأوجد مصالح تتعارض ومصلحة الوطن العليا والمطالب المجتمعية المشتركة فسوء الإدارة بحسب ما تؤكده دراسات وأبحاث عديدة أدى إلى تفشي مظاهر الفساد وتقديم التنازلات والوعود والعطاءات لكسب تأييد البعض وشراء ذمم البعض الآخر وإهدار المال العام وإفراغ الخزينة العامة وإغراق البلاد في الديون وتوسيع نطاق البطالة والفقر كل ذلك انعكس سلباً على واقع الحياة وأوجد شبكة واسعة من الفساد والمفسدين جعلت الوطن ومصالحه ألعوبة في يد المفسدين ما يعني أن الانتصار للوطن لا يكون إلا بالانتصار على حزم الفساد وجملة المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. تحت غطاء الدين مظهرآخر من مظاهر الولاءات والانتماءات المضرة بالوطن وهو الانتماء لجماعات دينية تشغل هذه الولاءات لضرب الولاء الوطني وإسقاط بنية الدولة لغرض الوصول إلى أهداف سياسية تحت غطاء الدين،واستغلاله وتسخير الخطاب الديني لتحريض الناس نحو ذبح بعضهم البعض ومواجهة بعضهم البعض ما يعني في النهاية إسقاط الوطن الواحد المنتمي لدين واحد وهو أمر في غاية الخطورة وله عواقب وخيمة جداً بل هو أخطر أنواع الولاءات وأشر أنواع الصراعات لاختلاط الحسابات الدينية والدنيوية فيه ولأنه يتم استغلال عاطفة الدين وهي عاطفة قوية وجياشة كان يمكن أن تؤثر إيجاباً لو تم تحريكها في اتجاه الحياة لا في اتجاه الموت في اتجاه المحبة لا في اتجاه الكره في اتجاه التعاون والتآلف والتآخي لا في اتجاه التناحر والتباغض والقطيعة والافتراق..إن الدين رحمة للناس وأن تكون متدينًا لا يعني ألا تكون وطنياً فالدين والوطن كلاهما من الله وكلاهما يوصلان إلى نيل رحمته ورضوانه..