رغم مرور سنوات طوال على قراءتي لرواية « الشيخ والبحر»للروائي النوبلي الشهير همنجواي إلا إن كثيراً من صورها لا تزال عالقة في روحي ، فكأني واقف على شاطئ البحر أرى أكواخ الصيادين المتناثرة ، وقواربهم المربوطة على أطراف المياه ، والأصداف تحت أقدامي الحافيتين ، والشمس ترسل إشارات من كفها الكليل كأنها ذاهبة لتنام وراء الجبال فتستريح هناك استعداداً لشروق جديد ، وكأنما أسمع أمواج الماء المتلاطمة وهي تصارع الصخور الرابضة في الشاطئ الرملي علها تسمح لها بالخروج إلى اليابسة ، وذلك الصياد العجوز يكابد الحياة على بقايا قاربه القديم وبأدواته العتيقة ، ورفيقه الغلام الصغير وهو يحاول مساعدته بذراعيه الواهنتين ، كل ذلك قد دُفن قديماً في ركام ذاكرتي المحملة بخليط من الذكريات ، لكن ما الذي استثار هذه الذاكرة لتستنشق عبير ذلك الهواء العليل الذي يهب على سواحل الأطلسي في تلك البلاد النائية ؟ إنها الأديبة الروائية ( مياسة النخلاني ) فقد أبحرت سفينتي في ( لقائها القريب) لتثير بقايا الروح المخبوءة في زوايا الجسد الذي أنهكته السنون. وتوالت عليه عوادي الحدثان ، فتطل عيناي على تلك البيوت الطينية المبنية على شاطئ البحر بعبقرية الفنان وريشة الرسام الذي يعشق الجمال فيزينها بالقواقع ،..ويستمتع بمرور السرطانات بجوار جدرانها ، لتزحف عليها المياه فتبتلعها لتلقيها في جوفها الجائع ، تلك هي حياتنا التي تمضي مشبعة بالماء والملح والرمال ، في ليل كالح خال من النجوم إلا قمراً يبرقع وجهه الحزين بلفائف من السحب الممزقة في أديم السماء ، وها هي الحياة ترمينا بسهام كأنها المطر المنهمر فيخطئنا بعضها ويصيبنا أكثرها لكننا نصر على قهر الألم ونحاول أن نتناساه ، ونرفض التوقف في منتصف الطريق ونصر على المضي إلى المحطة الأخيرة ، وإن وصلنا كثيراً ما نتساءل هل كان يجب علينا أن نصل إلى هنا فندفع ضريبة الاستمرار ، أم كان الدافع لنا غريزة الإصرار على استكشاف المجهول الذي قد لا يكون أجمل من بعض المحطات التي مررنا بها. . أرادت أديبتنا (مياسة) أن تغوص في خلجات المشاعر ، ومعانقة وساوس وهواجس النفس والتغلغل في العقل الباطن ومخاطبة اللاشعور ، لتحاول استخراج الصورة الأصل لهذه الحياة من بين ذلك الركام المتلاطم ، لكنها أحيانا ونحن معها نبحث عن طيف غائب ونتجاهل روحاً حاضرة فنهرع إلى معانقة الغائب فنرسم له صورة نرجسية زاهية الألوان ، ونزهد في الروح الحاضرة حينما نلحظ نقصها يغطيه هيكل عيوبنا البشرية . وكثيراً ما تكون ابتسامتنا شاحبة خجولة مترددة ، لكنها هنا تعبر عن فلسفة واقعية نعيشها ، لا مثالية جوفاء نزين بها وجوهنا الكئيبة فنمارس بذلك فن تقوية عضلات الوجه . ترسم لنا أديبتنا (مياسة ) ذلك الأب الرقيق الموسيقي الحنون الحالم الهارب ، وتلك الأم المتصلبة المنتقمة ، المصرة على العبور فوق جسور الألم غير العابئة بما تخلف وراءها من آهات. وتأتي (سلمى) البنت الهجين ذات الشخصية الممزوجة من مثالية الأب وجمال روحه المترنمة ، وواقعية الأم وإصرارها على الكفاح ، سلمى الباحثة عن الحب في خيوط الغروب وفي ما وراء البحار في عبق الجد وحركة الصور الجامدة ، فانتقام الأم يدفعها إلى إثبات ذاتها والاحتجاج على ضياعها ، ورقّة الأب تلهب عاطفتها وتهزم إصرارها فتمضي وهي تترنح بين الطريقين . لقد استمتعت حقا وذرفت عيناي مراراً وأنا أغوص في فلسفة أديبتنا المبدعة و أتنقل في جداول إبداعها وحدائق لوحتها التي شيدت أركانها وأعلت بنيانها وزخرفت جدرانها فأضحت تسر الناظرين وتستهوي العاشقين.