ليس هناك منظراً يُضاهي منظر البدر الساطع ليلاً, منظر البدر وهو يطلُّ من علياء سمائه، كأنه قرص من ذهب يبعث في نفس الإنسان إحساساً متدفقاً بالنشوة والجمال الخالص، إحساساً ليس له حدود.. كم يبدو الكون زاهياً حينما يغمره البدر الزاهي والمشعُّ بفيض من سناه، وينشر عليه شلالات من النور والضياء.. منظر القمر الساطع ليلاً يضفي على الحياة بهجة وإشراقاً وصفاءً ورونقاً، وأجمل ما في القمر إنه يغطي الأشياء بغلالة رقيقة شفافة، فهو لا يعرّيها ولا يُظهر تفاصيلها الدقيقة فتفقد بذلك جاذبيتها, لذا تظل مُحاطة بغموض مُحبّب يثير فضول الشعراء والعُشّاق.. فكلما كانت الأشياء مستورة ومُحاطة بما يجعلها تخفي تفاصيل محاسنها كلما كانت أكثر جاذبية وإثارة.. فالبدر في استدارته الجميلة وبهائه وإشراقه ورونقه فجّر كوامن النفوس وخفايا أسرارها فأجرى على ألسن الشعراء والعشّاق والمحبين أرقّ المعاني وأحلى الصور, فكان للقمر مع الشعراء والفنانين والعشّاق السهارى علاقة حميمة.. فشبّهوا الحبيب بالقمر وخاصة حينما يكون بدراً فهو في ذلك يكون غاية في الصفاء والبهاء والسحر.. فحين يكون القمر بدراً يتحول هذا الكون إلى فردوس جميل يتحول فيه الناس إلى ملائكة يسبحون في النور.. الصخور الصماء تتحول إلى ديباج من الحرير.. حتى الحصى الصغيرة التي ندوسها بأقدامنا في النهار، ولا نعيرها اهتماماً تتحول مع إشراقة البدر إلى دُرر نفيسة وجواهر لامعة ومؤتلقة.. ففي ليلة مقمرة يتحول الكون إلى فردوس كل شيء فيه يأتلق ويزهو ويسبح في محيطات من النور.. منظر بديع قلما تجد شبيهاً له.. ولذلك كان الشعراء محقين حينما جالوا بأعينهم إلى الطبيعة الحالمة وإلى السماء الواسعة، وكانوا أكثر صواباً حينما اتجهوا إلى البدر هذا الكوكب الجميل الذي يبدو لكاتب هذه السطور- كلّما صوب ناظريه إليه – لوحة نادرة معلّقة في الأفق البعيد تبعث في نفسه شعوراً فياضاً بالنشوة الحالمة كلما أطال التحديق فيها.. فهل كان الشعراء محقين حين شبّهوا الحبيبة - ببياضها وإشراق محيّاها- بالبدر؟ هذا ما سيتضح من خلال ما سنورده في هذه التناولة من شواهد.. وجميل أن تكون بدايتنا مع واحد من أفضل شعراء الأغنية اليمنية وهو احمد فضل القمندان فيقول: يابدر في الدنيا تجلى في خبا يا شهد دوعاني وأحلى من صبا ومن قصيدة أخرى يقول: ضياء الوجود يا بدر شعباني على كل موجود وفي قصيدة “مليح يازين” يقول: يا هركلي يا أهيف يا بدر في الدنيا أضاء الحلك بالمغرم المدنف إرفق فإن الروح والقلب لك في ثغرك القرقف والناس ذي في الأرض تحت الفلك وفي قصيدة “قفيت واناسع القامة ودمعي يسيل” يتمنى القمندان لو يلتقي بجميل تعدّدت محاسنه وأو صافه البديعة فهو جدير بالأماني التي ربما تُفسح ولو قليلاً من الزمان للقائه.. فيقول: يا بدر يا غصن يتخطّر وطرفه كحيل يا مسك يا فُل يا عمبر وجعده طويل يا ليتني صبح بالقاكم وبعد الأصيل وهذا مقطع من إحدى قصائده يقول: شفّيت بي يا قمر شعبان ذي ما بهم رحمة وذي عندك كادوني ويشنوني يا ما بحالي منك يا عسل صافي جرداني شفاء وافي للقاصي وللداني ساعة صفاء تجمعك بحبيب تمنحك أحياناً المتعة التي تبحث عنها زمناً طويلاً, فعلى رغم قصرها إلا أنها تبدّد ركاماً من هموم ربما كانت جاثمة على القلب والنفس.. هذا المعنى الجميل يختزله هذا المقطع القمنداني: طاب السمر يازين.. أي طاب السمر مع كحيل العين والبدر الأغر ساعة صفا تُجلي همومي والضجر ما خاب يا أهل المودة من صبر وهذا مقطع أخير للقمندان يصوّر الحبيب بأنه بدر يحكم ويأمر وليس بوسع من يقع في حبه وغرامه إلا أن يأتمر ويخضع لأحكامه وأوامره.. فيقول: يا بدر في الأفاق شعشع أو ظهر لك في السويداء والحشاء مني مقر حُكْمُه على العُشّاق نافذ لو أمر كأن حكمه في بني آدم قدر كم يكون الجو شاعرياً حينما يوجد من يضفي على فتنة الطبيعة فتنة وجمالاً إضافياً، فأي لحظات من النشوى هذه التي يجتمع فيها حبيبان وسط غمرة من ضياء القمر ويكون الحبيب جزءاً من هذا الجمال الذي يبرز من تمازج الاثنين معاً.. هذا ما عبّر عنه الشاعر محمد عبده غانم في مقطع من إحدى قصائده الغنائية: البحر حوالينا هادي والبدر يغني وينادي من زيّه جميل في الدنيا دي يا عين يا ليلي على البدرين ياريت الليلة تطول شهرين والشهر يطول ويصير سنتين وفي مقاطع مختارة من عدة قصائد غنائية للشاعر عباس الديلمي سنجد ما يشبه الأوصاف التي جاءت الإشارة إليها سلفاً, فقد أفرد في شعره الغنائي مساحة للبدر كانت بالفعل مساحة مشرقة عكست سناها وإشراقها على نفوسنا وعلى أذواقنا فقد جاء وصف الحبيب وتشبيهه بالبدر في مقاطع شعرية غاية في الجمال فيقول: فوق عرش الحسن والسحر اعتليت بدر في شعبان في حنايا القلب تفعل ما اشتهيت تزرع الأشجان وفي قصيدة أخرى يقول: إتزاهد المشي يا سيد الملاح في الطريق فأنت كالبدر في حسنك وخصرك دقيق سبحان من سيّرك مثل النسيم الرقيق وأوجد السحر في الطرف الكحيل العريق وفي قصيدة غنائية أخرى يقول: يابدر طالع على الكون اعتليت قمر مكمّل تدوّر واستوى ليتك ترفّقت بي لمّا رميت قلبي فسهمك تقنّصني سوا أيقظتني للمحبة واكتفيت ما هكذا فعل من ذاق الهوى وفي مقطع من قصيدة غنائية أخرى يتساءل عن سبب جفاء حبيبه الذي لا مبرر له ولا سبب، فلماذا يتمادى في صده وهجرانه مع أنه يذرف الدموع الغزار من أجله. قل لمن مال عنا واختفى واحتجب ما جرى؟ ما جنينا ليش هذا الغضب غبت يا بدر عنا دون ما به سبب كيف تهجر معنى دمع عينه سكب؟ وهذا مقطع من إحدى قصائده مليء بالصور الجمالية أرجو أن يستشفها القارئ معتمداً على إحساسه وتفاعله الخاص كما يحلو له.. يا بدر ما تحجبه عنا بروج الكسوف ولا المسافات تبعد بيننا والزمن ناغيت قلبي بأجفانك وأنت الرؤوف بكل ما ذاق من طعم الهوى وافتتن برّح بي الشوق لو أن “الثريا” تشوف قيّامة الشوق في مهجة “سهيل” اليمن كنا انشرحنا وخلّينا العوالم وقوف لفرحة الوصل والمكتوم يصبح علن وصوت “أيوب” يشدو بين نقر الدفوف والمحجرة من ربا صنعاء وساحل عدن وله هذان البيتان أيضاً: كيف ابتعد عن بدور في وسط روحي تدور أقمار بهجة ونور لها وهبت النذور وهذا الشاعر القاضي أحمد بن عبدالرحمن الآنسي أحد شعراء القصيدة الحمينية المتميزين وفارس من فرسانها.. تعالوا نرحل معاً في دنياه الشعرية الحالمة التي تفيض بدرر نفسية من إبداعاته فيقول: سلام يابدر قد أخجل بدور الكمالِ وغار بدر الأصيل سلام يامن على الغزلان حاكم ووالي ولا خلق له مثيل إلى أن يقول : حمّلتني يا شقيق البدر فوق احتمالي بحمل جائر ثقيل واستمّ جسمي ودمع العين شاهد بحالي والقلب من ذا ذليل ويقول في قصيدة أخرى: بدر السماء كامل الأوصاف قد حلّ ظلمي وعادل القدّ جار أباح قتلي وأسري وانتهابي وظلمي واشعل فؤادي بنار وهذا مقطع من قصيدة غنائية للقاضي الآنسي غناها الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه يقول: مثل القمر في السماء ما حد بكفّه ينالك ولو عشق طلعتك هيهات ياسيد ما في الغيد يوجد مثالك ولا خُلق خلقتك من أين للبدر ياسيد الغواني جمالك قد هو فدا صورتك والعود ماله شذى عرفك ورقة مقالك ولا طرب نغمتك أنت جميل كالبدر وحقك أن تكون في مكان عالٍ وليس في الأرض.. فإذا كان البدر يتوسط السماء فحقك وأنت شبيه بالبدر أن تكون في عيني وفوق رأسي.. هيهات أن القمر يحكيك وأنت المنزّه عن النقصان كل الملاح يارشا تفديك والبدر والشمس والأغصان جي فوق عيني وفوق الرأس ما هو على القاع ياخلي ويقول في قصيدة أخرى: من ذا يكن مثلك وأنت الشمس والبدر المنير كلك حلا كلك وختم القول مالك من نظير وهذا مقطع للآنسي أيضاً يقول فيه: يابدر مُشرق من الروشان مالي على فرقتك طاقة كيف تحرق القلب بالهجران وما يجوز يارشا إحراقه أجريت دمعي عل الأوجان سيول من العين دفّاقه ومن غير المعقول أن نختتم هذه العجالة دون أن نمر عل أغاني الشاعر والملحن المبدع الأستاذ عبدالله هادي سبيت.. تلك الأغاني المزروعة في أعماق الوجدان وبألحانها التي يهتز لها الجسم طرباً وتحلّق بنا في فضاء جمالي كلما دندنّا بها.. فيقول في قصيدة “آسري ربي يصونه”: آسري ربّي يصونه جنّبه شر الحسود القمر طلعة جبينه والشفق بين الخدود وفي أغنية “يا حبيبي” يقول: القمر كم بايذكّرني جبينك يا حبيبي والشفق كم با يذكّرني خدودك يا حبيبي يا حبيبي كيف بأنساها ليالي كنت فيها بدر ساطع في خيالي كيف بأنساها ليالي كل شيء فيها صفا لي وأنت من عليا سماك كنت تسقيني هواك والنجوم تحمي حماك في أنيني يا حبيبي في حنيني يا حبيبي با ذكرك يا بدر ونجومه قلوب يا حبيبي وليكن المقطع القادم للأستاذ سبيت هو آخر ما نقف عنده في هذه التناولة والحقيقة هناك نماذج ثرية كان بودي لو أوردتها ولكن هذه هي المساحة المتاحة التي اتسعت لما أوردناه وأرجو أن يجد القارئ فيها بعض ما يُشبع نهمه الذوقي.. أما مقطع الأستاذ سبيت فهو: في السحر تحت الشجر بين الزهر قد تلاقينا ومن يفهم عذر والقمر لمّا ظهر لاقى قمر يخطف الأبصار من خلف الحور اختسف بين الخدود واقتصم بين النهود كل من رام الخلود ذاب من لحظة نظر ويقول في قصيدة غنائية أخرى: يا حلو السحر في طرفك حور خلّيت القمر منك تشرشف بالغدر [email protected]