مازالت ولأكثر من خمسين عاماً والدولة المدينة الحديثة حلما طال انتظاره لأبناء اليمن لم يتحقق بعد, مع ان مصطلح الدولة اليمنيةالمدينة الحديثة تغني ولايزال من يتغنى به إلى يومنا هذا منذ اندلاع ثورة 26 سبتمبر 62م والذي ضحى من أجل تلك المبادئ الكثير من الأبطال بدمائهم لتنعم اليمن بالتقدم والرخاء وبالأمن والاستقرار, ولكن من جاء بسياسة الثورة من بعد الثوار الحقيقيين خيبوا الآمال والتطلعات, حتى من بقى منهم على قيد الحياة اليوم يندم على ما قدمونه .. منكرين ان الراهن ليس ما كان يحلم به الثوار الأوائل بأن يروا اليمن من مصافي الدول المتقدمة ويتحسرون على واقع لم ينصفهم أنفسهم بتاتاً. مع احتفالات اليمن بالذكرى ال52 للثورة اليمنية “سبتمبر وأكتوبر” حاولنا استيضاح بعض الإشكاليات التي وقفت أمام تحقيق الحلم اليمني بإقامة أبسط مقومات الدولة وبالرجوع إلى أهم دراسات الباحثين لمعرفة الصعوبات والعوائق التي واجهتها وحالت دون تحقيق حلم الدولة اليمنية المدنية الحديثة طوال الفترة الماضية، والتي ظل هذا المصطلح مجرد أسطوانة مشروخة تتغنى به الدولة دون ان تكون هناك أدنى السياسات من أجل الذهاب إليه. قضايا ثانوية الدكتور عبدالعزيز المقالح أديب اليمن واحد أبرز المفكرين العرب، قال: الحديث عن إقامة الدولة المدنية في قطر عربي واحد دون ان يشمل هذا المبدأ بقية الأقطار سيظل حديثاً على ورق وحلماً بعيد المنال للخلفيات التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي تجمعهم في ذلك الاطار, وتشابك الموروثات والمؤثرات في ظل وجود العوامل الخارجية الضاغطة على مصلحتها ان تظل البنية التقليدية للأنظمة هي السائدة.. ولا يعني ان توقف المثقفون والقيادات السياسية عن التبشير بالدولة المدنية. ويشير الدكتور المقالح في مقدمته التي كتبها لدورية قضايا استراتيجية والصادرة عن دائرة الدراسات والبحوث السياسية بمركز الدراسات والبحوث اليمني العدد الرابع أكتوبر 2009,في مقدمته بعنوان “في الطريق إلى الدولة المدنية” ان تحقيق المتطلبات الرئيسية للشعوب في العيش الكريم وتوفير الاحتياجات الرئيسية كالخبز والكهرباء والعلاج يسبق إقامة الدولة المدنية, مع ان وجودها كفيل بأن يحقق للمواطن احتياجاته كاملة في ظل العدل والمساواة والفرص المتكافئة والخروج من دائرة المنازعات على السلطة وصورتها التقليدية. ويعتبر ان الدولة المدنية في بلدنا اليمن هدفا أساسيا من أهداف التغيير الذي كانت عليه الثورة اليمنية “سبتمبر أكتوبر” والتي استوعبت أهدافها الأولى الأسس السلمية لإقامة الدولة المدنية. ويؤكد الدكتور المقالح ان ما واجهته الثورة من حروب ومعوقات ومن مؤثرات داخلية وخارجية ومن التشطير الذي لحق بالوطن, جعل من تحقيق هذا الهدف أملاً صعباً وشأناً مؤجلاً, وكان الظرف الذي تم تحقيق الوحدة اليمنية في 90م وما ارتبط به من تزامن إعلان الديمقراطية والتعددية مناسبا لإقامة الدولة المدنية, إلا ان مخلفات التشطير والمؤثرات السلبية للمحيط العربي العام وغاب فكرة التطور على أساس من الدولة جعل القضايا الثانوية تعصف بالأهداف الكبيرة والنبيلة وتهدئ من خوض تجربة التحديث. منوها ان مشاكل الشعب العربي بشكل عام لا تأتي من الخارج بل من الداخل من غياب مشروع النهوض الذي يبدأ بتحقيق الحد الأدنى من الديمقراطية والحرية وما يرافقها من اختفاء سلطة الإرغام والفرض والبدء في إطلاق إرادة الشعب المقيدة بأوهام الماضي. القبيلة دور سلبي أما الباحثة آمال الخضر والتي أكدت دور القبيلة كإحدى المعوقات لبناء الدولة الحديثة في اليمن والتي أكدت ان القبائل في اليمن أشبه ما تكون بدول مصغرة من حيث علاقتها وتفاعلاتها وتقسيماتها الإدارية والسياسية ونظامها العرفي القبلي, والذي أصبح أي فرد من القبيلة ينظر إليها بمثابة البطاقة الشخصية التي تمنحه حقوق المواطنة. وبقيام ثورة 26سبتمبر 62م وقفت القبيلة إلى جانب الثورة وهبوا للدفاع عنها وتثبيت النظام الجمهوري, وفيما تلا الثورة من أحداث استطاعت التجمعات القبلية التأثير المباشر وإلى يومنا هذا في الأحداث السياسية, ما كانت عليه القبيلة في جنوباليمن قبل تحقيق الوحدة والتي كانت اقل تأثيراً, وبعد التوقيع على الوحدة ونتيجة للظروف السياسية والاجتماعية على الواقع اليمني, كان لزاما على القبيلة ان تؤقلم نفسها مع الواقع الجديد ومستجداته. وقالت:” تكمن المشكلة اليمنية في الدولة تتصرف وكأنها قبيلة والقبيلة تتصرف وكأنها دولة, واستبشر أبناء اليمن بالوحدة من اجل الارتقاء بأوضاعهم الصعبة في شتى المجالات والتي نتجت عن استغلال القبيلة سياسياً في الصراعات الدائرة أو نتيجة إهمال الدولة. غياب مفهوم الدولة وفي إطار ذلك يؤكد الدكتور احمد الجنيد ان انتشار الأسلحة والإتجار به على نطاق واسع في اليمن وبين أبناء القبائل وبعيداً عن الرقابة الحكومية وبحسب بعض المصادر ان هناك أكثر من 60 مليون قطعة سلاح, بالإضافة إلى الفساد المستشري في كافة مرافق الدولة وضعف العدل, مع استمرار الدولة باللعب بورقة القبيلة لتعايش الأضداد منذ فترة طويلة وهذه المعادلة مثلت عقبة صعبة من اجل الذهاب بسلام بطريق بناء الدولة الحديثة, وتخصيص ميزانية كبيرة بالقبائل بغرض كسبها إلى صف الدولة منذ أكثر من خمسين عاماً, وهي جميعها الزعامات التقليدية لازالت مستمرة على هذا النهج, في الوقت لم تتمكن الدولة وبسبب سياستها في هذا المجال من تحقيق تقدم كاف في اتجاه بناء الدولة اليمنية الحديثة. وما زاد ذلك هو غياب الدولة في كثير من المناطق اليمنية, وتحولت عدد من الزعامات القبيلة إلى قوة نافذة على الصعيد المحلي والوطني وأصبحت تحل محل الدولة في نطاق نفوذها ولا تحتكم للقانون نتيجة لذلك الغياب, واستمرار التضامن القبلي والاحتكام للقوة أساساً في حل الخلافات والمنازعات لتستمر الممانعة تجاه تدخل الدولة. ويوضح ان الإرادة السياسية هي الأداة الرئيسية لحل كل المعضلات التي تعد عائقاً خطيراً أمام مشروع بناء الدولة من اجل أمن واستقرار البلاد والحفاظ على كيان الدولة وتقدم المجتمع بطرق سلمية. تنظيم قانوني وفي الاطار ذاته يرى الدكتور حسين علي الوشلي ان التنظيم القانوني من أهم الأسس لبناء الدولة المدينة الحديثة باعتبار ان التنظيم القانوني وبناء الدولة القانونية هي الوسيلة المثلى لضبط شؤون المجتمع على أسس العدالة والمواطنة المتساوية ,باعتباره نظاما يؤسس للتعايش الاجتماعي في إطار قانوني, الذي يعتبر بحد ذاته البناء الفكري والنظري لأسلوب حياة الجماعة, وهي المرحلة المتقدمة في أسلوب معيشتهم وحياتهم. ويوضح ان مبدأ المشروعية أو بما يسمى بسيادة حكم القانون يعتبر من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة المدنية. أنانية مفرطة ويعدد الدكتور سمير العبدلي عدد العوائق التاريخية منذ قيام ثورة (سبتمبر وأكتوبر) والتي أحالت دون ان تحقق اليمن أو السير بتحقيق مشروع بناء الدولة العصرية والتي كان يحلم بها الجميع من أجل التقدم والبناء طوال الفترة الماضية , ولكنها جميعا أهدرت نتيجة الأنانية المفرطة والفردية والصراعات السياسية والمصلحية وسيادة الثقافة القبلية وأحياناً المذهبية والمناطقية والجهوية التي سادت مراحل بناء الدولة منذ إعلان الثورة والاستقلال, التي دفع الشعب اليمني وضحى من أجلها دماء ودموعاً وقهراً وفقراً ومرضا وغيرها من المعاناة, برغم ان دولاً عديدة كانت تسبق اليمن في التخلف والقبيلة تجاوزت بلادنا وقطعت أشواطاً كبيرة نحو الاستقرار وبناء الدولة العصرية. ويعتبر ان بعد تحقيق الوحدة اليمنية في مايو 90م كانت فرصة ذهبية باعتبارها اللحظة المثالية لبناء الدولة المدينة والبدء الفعلي في بناء مشروع المستقبل اليمني الفعلي الذي تعلقت به الآمال اليمنية العريضة والتي اجهض هذا المشروع نتيجة للأنانية والفردية وسيطرة مشروعات الأوهام على كل شركاء الوحدة, والتربص الخارجي باليمن. تركة تاريخية الباحث قادري احمد حيدر يرجع ان تأخير بناء الدولة بمعناها إلى ان بعد قيام ثورة 26 سبتمبر في 62م هو ان الثورة وجدت نفسها أمام تركة تاريخية ثقيلة من التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي, بل وغياب الحد الأدنى من وجود الدولة وهيئاتها ومؤسساتها ودون وجود جيش, لان الثورة بدأت تمارس عملية البناء من الصفر في شتى المجالات, ولما لحق بالثورة من ثورة مضادة أدخلتها في الحرب وعدد من المشاكل إلى عام 1970م, ودخول اليمن في تحالفات عميقة بين الجيش والبيئة القبلية “المسلحة “ الأمر الذي أضعف إمكانية بناء الدولة الوطنية الحديثة. واعتبر قادري ان مشكلة بناء الدولة الوطنية والمدنية الحديثة بتجربته الموحدة أثبتت فشلها وعجزها ولهذا فإن تجربة عقدين من بناء دولة الوحدة أكدت وبوضوح فشل الدولة البسيطة في إنجاز المهمات السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية والوطنية معقدة. خلل منهجي أما الباحث عبدالله الدهمشي فيرجع إشكاليات التنمية الشاملة المتصلة بمشروع بناء الدولة الحديثة إلى العلاقة بين الدولة والمواطنين وإلى وضع من التنافر الذي تزايد من فترة إلى أخرى بسبب ضعف الدولة مقابل قوة المراكز التقليدية للبنية القبلية في اليمن الجمهوري قبل الوحدة وبعدها, ويضيف إلى ان العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والثقافية الغائبة والتي ليست منظمة, إلى جانب غياب المنهج العلمي في شتى تجارب التحديث والتنمية المحلية قبل الوحدة وبعدها لخلل منهجي في التصور والتصرف تجسد بالتحيز الأيديولوجي وتجذر بالانحصار الكلي لمجال السياسي في زاوية الصراع بين السلطة والمعارضة والذي كان ينبغي ان يتجه نحو الاتساع الممكن والمحتمل في الحرية والشراكة. عدم الاستقرار الداخلي الدكتور/ عبده البحش يؤكد ان مشروع بناء الدولة المدنية الحديثة في اليمن واجه العديد من المعضلات والتحديات عملت على إعاقة هذا المشروع وهي جميعها متشابكة ومترابطة ومتداخلة في كافة جوانبها الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية والاقتصادية, والتي تعد من أبرز تلك المعضلات طغيان القبيلة على الدولة وازدياد نفوذ القبيلة مع تحقيق الوحدة اليمنية في 90م في كافة أجهزة ومرافق الدولة بل وصلت إلى المناصب العليا لترتدي القبيلة الرداء الحزبي لبعض الأحزاب السياسية, وانضواء قبلي كبير في اطار حزبي آخر , لتظل القبيلة باستقلالية وشمولية أعرافها وتقاليدها عائقاً أمام بناء الدولة المدنية الحديثة بل حتى أمام ازدهار الديمقراطية, وعدم احتكام القبيلة للقانون وتوسيع نفوذ المشائخ في دوائر صنع القرار, ومع ذلك امتلاك القبيلة للأسلحة بمختلف أنواعها. كذلك من ضمن المعضلات هو عدم الاستقرار الداخلي والتي لم تشهد اليمن أية فترة استقرار وسلم اجتماعي, إلا أنها حروب ومشاكل منذ اندلاع ثورة 26 سبتمبر 62م ,وحتى حرب صيف 94م وحروب صعدة السته بداية 2004م ,وهي سنوات قليلة التي شهدت اليمن فيها استقرارا سياسيا, وظهور ما يسمى بالحراك الجنوبي المطالب بانفصال الجنوب وغير ذلك مثل تحدياً أمنيا أمام مشروع بناء الدولة المدنية الحديثة. ويضيف الدكتور البحش ان الفساد المالي والإداري أداة مدمرة لمقدرات التنمية وبتوسع الفساد أجهضت محاولات الإصلاح الاقتصادي لليمن, ولعب في تشويه المنظومة الأخلاقية داخل المجتمع, إذ نتج عن ذلك تدهور اقتصادي انعكس في توسيع ظاهرة الفقر والبطالة, باعتبار الفساد معضلة كبيرة في تطور مسار بناء الدولة اليمنية, وتدهور التعليم وانتشار الأمية شكل عقبة رئيسية أمام تحقيق مشروع بناء الدولة باعتبار التعليم هو مفتاح الذهاب للتطوير والنهوض بكافة المجالات, وكان من الصعب جداً ان بناء دولة مدنية حديثة يسودها النظام والقانون في مجتمع متخلف يفتقر إلى العلم والوعي الثقافي والحياة المدنية.