من ستينيات القرن الماضي وهو يُرقِص العرائس بكلماته الفرائحية .. ألا يا طير يا الأخضر واين بلقاك الليلة لقيته يا ماه ذي سالت دموعي عليه.. ليته يجي عندنا.. نعم هذه نظرته وهذا أسلوبه وهذه الكلمات غيض من فيض مما كانت تحمله (وتعجشه) سُحب عقله وتتمخض بها أفكاره تلك الأفكار التي كانت على الدوام تعيش حبلى بالجينات الثقافية والأدبية وكلما ولدت تلك الأفكار وأنجبت مواليدها التي لا تُخلق صغيرة ولا رضيعة كما تُخلق بقية المواليد كلما أتت إلى الساحة الأدبية والفنية مكتملة البنية تحاكي الواقع العام كلٍ بحسب اتجاهه وكأنها مدرسة تخصصية تقدم موادها بحسب الميول والعشق الذي يحمله المنتمي.. إنها المدرسة الفنية التي أتت تتفاخر بانتسابها لهذه التربة اليمنية.. أتت وهي تخاطب هذا الوطن المعطاء بأن ينهض من بين ركام العبودية الأمامية والاستعمارية.. أتت وهي تصرخ وتقول: بلادي إلى المجد هيا انهضي إلا أن التجاهل والنسيان لصاحب هذا النداء كان السبب الأول لبقاء اسمه مخفياً خلف الستار بينما الكثير من محبي الأدب اليمني وعاشقي الألحان والأنغام اليمنية يرددون ويغنون: شلني يا دريول تجمّل.. وهم لا يعرفون اسم هذه الدر التي مسك مقود القصيدة وجعل قلمه عصاة التحكم بتبديل سير السجع والقافية كما يبدل السائق (عصاة الإسبيت لسيارته). نعم إنه الشاعر الكبير (أحمد بو مهدي) المولود في المكلا عام 1940م وهو من كُتاب الأغنية الشعبية في عدن.. شاعراً حاكى الكلمات الشعرية بلغته فجعلها تحاكي المتتبع لها والسامع لمفرداتها بطريقة المحاور المتمكن والمجيب على الحوار الذي يمتلك زمام المعرفة والإلمام بالإجابة. أحمد بو مهدي من شعراء الزمن الجميل الذين كانوا يبحثون عن الكلمة التي تروي عطش المستمع يبحثون عنها من حدس وتجليات وأفكار ذلك المستمع والمتابع نفسه فيصبغونها من كل الجوانب ليعيدوها إليه بلباس الأدب والحشمة وبوجه جميل ومميز وهي تتحدث عن نفسها بلغة كاتبها المتمكن.. لقد عُرف الشاعر أحمد بو مهدي قديماً بأشعاره العاطفية وإن كان يكتب أحياناً الشعر الحماسي وكانت أكثر قصائده الغنائية تحظى بصوت الفنان الراحل محمد صالح عزاني الذي غنى له من بداية انطلاقته الفنية، إلا أن غالبية المستمعين كانوا يعرفون أن هذه الأغنية أو تلك هي للفنان العزاني ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن كاتبها، وهذا ما تحدثنا عنه في مواضيع سابقة وقلنا: إن الجهة المختصة والمتمثلة بوزارة الإعلام منذ نشأتها وبالأخص المسموع والمرئي الذي كان بإمكانه عندما يُقدم هذا الفنان أو ذاك أن يقدمه باسمه وباسم أغنيته واسم كاتبها لكي ترتسم دائماً في عقل المتابع أو المستمع.. فمثلاً لو أتيت وبدأت بترديد أول الأغنية التي غناها الفنان محمد صالح عزاني والذي يقول مطلعها (ألا يا طير يا الأخضر وين بلقاك الليلة) فسوف تجد القريب منك يكمل ترديدها والكثير يعرف أن من يغنيها هو الفنان العزاني وإن كان هناك الكثير من الفنانين قد تغنوا بها والقصيدة توحي من خلال مدخلها أن الشاعر بو مهدي جعل من كلماتها حواراً مع الطير وإن كان الحوار يحمل شيئاً من التساؤل الذي يستدركه بالتأنيب والمحاسبة كون الطير الذي يتحدث عنه يمثل المحبوب الذي لم يكن صادقاً في وعده مع ذلك الحبيب الذي جعله يناديه ويسأله عن المكان الذي من الممكن أن يجده فيه ليضع أمامه مطالب الفرحة وحينها سوف يرددان الغناء والرقص معاً متبادلين لحون الأغاني كلٍّ من جانبه.. بينما لو وقفنا أمام قصيدة الشاعر الغنائي نفسه والتي لحنها وغناها الفنان الراحل محمد مرشد ناجي وغنتها بعد ذلك الفنانة أمل كعدل والتي تقول «لاقيته ياماه ذي سالت دموعي عليه.. ليته يجي عندنا»، وهذه الأغنية استطاع الشاعر أحمد بو مهدي أن يكتبها بلسان الفتاة المتيمة التي ارتبط قلبها بذلك الإنسان الحبيب الذي ظل بعيداً عنها ولم يترك لها من الذكريات الطيبة سوى دموعها التي تنساب على مقلتيها كلما حاولت أن تتذكره حتى أتى اليوم الذي جمع شمل الشتيتين في مكان ماء، حينها عادت الفتاة إلى أمها بلهفة المشتاق وبفرحة لا تُوصف وهي تحمل البُشرى لأمها بأنها لاقت ذلك الحبيب الذي ظلت تبكي على فراقه زمناً طويلاً.. لكنها استدركت بُشراها بالتمني والدعاء بأن يأتي إليها ليطلبها من أهلها.. وهذه الكلمات عندما نستمع لها بالصوت الأنثوي، أي عندما تصدح بها الفنانة أمل كُعدل نشعر بعذوبة الكلمة واللحن وإن كانت الأغنية تميل إلى الشُكاء والبكاء ودعاء التمني.. كما كان أيضاً للشاعر أحمد بو مهدي تقاسم مشترك مع الفنان الراحل كرامة مرسال حيث جمعتهما القصيدة الغنائية التي تقول (البحر يتقايس وأنت ما عرفنا لك قياس).. ومن خلال صوت الفنان كرامة مرسال الذي يعد حضرمي المولد والنشأة نجد أن شاعرنا بو مهدي يجيد كتابة الشعر بألوانه المتعددة.. كيف لا، وهو من بدأ يكتب الشعر ويُسوقه إلى الكثير من الفنانين دون أن يتدرج على دراسته من صفوفه الأولى كونه أتى بأول قصائده وهي تمثل حجر الأساس المتينة لبنيته الأدبية.. ولم يكن ممن كانوا يبدأون بكتابة القصيدة التي يتدربون عليها أبجديات الشعر ثم يقومون بتمزيقها كونها لم تصل إلى مرحلة النضوج الشعري.. ولكن الشاعر أحمد بو مهدي عندما كتب أول قصيدة غنائية تحت عنوان (شلّني يا دِريول تجمّل) وسلمها في بداية الستينيات للفنان محمد صالح عزاني كانت بمثابة السلم القوي الذي من الممكن أن يصعد عليه الشاعر بو مهدي إلى قمة المجد الأدبي ومن هناك بدأ التعامل الفني للثنائي الشاعر بو مهدي والفنان العزاني الذي غنى له أكثر القصائد وإن كان الشاعر قد أعطى الكثير من الفنانين من قصائده التي غنيت بأصواتهم إلا أن غالبيتها كانت من نصيب الفنان محمد صالح العزاني ومنها الأغنية الوطنية والحماسية المشهورة التي نسمعها دائماً في الاحتفالات مع أعيادنا الوطنية والتي تقول.. ونسردها كاملة لأهميتها: بلادي إلى المجد هيا انهضي وسيري بعزم الشباب الأبي بدأنا كفاح البناء فاهنئي لينعم شعبي بعيش هني فديتك أيام حمل السلاح وسار الفداء على مبدئي وخضت مع الخصم أقسى كفاح نزعت به اليوم حرّيتي وقر الشهيد تلو الشهيد ينير بدمّ الوفاء تربتي فهيّا اكتبوا النثر والا النشيد فهم حطموا القيد يا فرحتي تجسّد بالقلب حبّ النضال رفعتُ به عالياً رايتي على كل جدرٍ وفوق الجبال ومن حيث أضاءت لظى ثورتي أمامك يا شعب دربٌ طويل علينا إذا لم نصنع المستحيل جميعاً سنهتف لا لن نميل ونحيا على رغم أنف العميل نعم إنها كلمات تجبر الفرد عند سماعها أن ينهض من فراشه ومقعده ليتجه نحو المواقع التي تبحث عمن يتواجد فيها لحماية هذا الوطن ومكتسباته.. كيف لا.. والقصيدة الحماسية تحمل بين ثناياها أبيات وكلمات تحث المواطن على الدفاع عن وطنه وتربته بعد أن بدأ بالكفاح والبناء لكي ينعم هذا الشعب بعيشه الهنيء.. وكيف لا أيضاً ؟؟ ونحن نسمع العزاني يردد: وقرّ الشهيد تلو الشهيد ينير بدم الوفاء تربتي فهيّا اكتبوا النثر والا النشيد فهم حطموا القيد يا فرحتي نعم إنها فرحة لا تساويها سوى فرحة انتصار الوطن بأبنائه وحماية حريتهم وتربتهم. لقد كتب الشاعر الغنائي أحمد بو مهدي الكثير من قصائده الغنائية مثل (ناقش الحناء، وظن إني نسيته، وبالنار والحديد والكفاح الجديد....) وكل هذه الأغاني كانت من نصيب الفنان محمد صالح عزاني فيما غنى له أنور مبارك (يا أغلى الحبايب) ولحّن له بن غودل أغنية (ما يهزّك ريح يا ذا الجبل) وهناك قصائد غنائية متعددة للكثير من الفنانين والتي كتبها الشاعر أحمد بو مهدي. ولم يكتفي فقط بكتابة القصائد الغنائية ولكنه ألّف كتاباً عن الفنان محمد صالح عزاني كونه يعني له الكثير حسب وصفه وسماه (العزاني كما عرفناه) وللأسف الشديد إن الأجل سبقه قبل أن يطبع ذلك الكتاب وإن كان قد أوصى بطباعته..وله ديوان بعنوان (أغنيات من اليمن) وديوان آخر بعنوان (سر المحبة).. ونظراً لشظف العيش فقد هاجر أحمد بو مهدي إلى السعودية ومكث فيها زمناً هناك ثم عاد بعد ذلك إلى مدينة المكلا وفيها فتح له معملاً، استيديو للتصوير.. ليأتيه الأجل بعد كفاح طويل ويرحل من دنيانا الفانية يوم 12/8/1997م وللأسف لم نسمع أو نقرأ ولو حتى الشيء اليسير عن شخصيات كبيرة مثل هؤلاء العمالقة.. فأين أرباب التوثيق الأدبي لكي يذكّرونا بهذه الهامات ولو بمناسبة ذكرى مولدهم أو وفاتهم؟.