الكثير الكثير من يتمنى زيارة ومصافحة عملاق الطرب اليمني، الرجل الوطني الغيور، فنان الأرض والإنسان أبو صلاح، أما زيارتي له فقد كانت حلماً داعب مخيلتي، وإيفاء وعدٍ لأمي التي وعدتها بزيارة الأب الروحي لكل اليمنيين، ففي هذا العام كان تحقيق الحلم لزيارة من يحتار في وصفه البلغاء ويتتلمذون على يديه، يعجز عن وصفه الشعراء فتخونهم صورة القصيد، ويتقزم في حضرته الفنانون، إنه فنان اليمن الكبير أيوب طارش نائف.. من صوت أمي الشجي حفظت أعذب الأناشيد الأيوبية الوطنية وأنا لا أزال طالباً في الإعدادية (كبلادي.. بلادي.. بلادي اليمن، وهذه يومي، وعطايا تربتي، وسيدوم الخير، ودمت يا سبتمبر التحرير، ويا نسيماً عابقاً كالزهري، املأوا الدنيا ابتساما، وهبناك الدم الغالي، ويا سموات بلادي باركينا، إلى جانب العاطفية). كبرتُ فعرفت مكانة تلك الأناشيد الوطنية في قلوب كل الوطنيين. كنت أقبّلُ رأس أمي عندما أسمع تلك الأناشيد من الراديو والكاسيت بل وفي كل المحافظاتاليمنية، والمواقع القتالية، وفي كل أزقة الوطن. وبمعية أمي زرتُ فنان اليمن الكبير أيوب طارش نائف العبسي. لم أصدق نفسي ولم أتمالكها حينما يرقص قلبي طرباً في جوانحي عند رؤية هذا العملاق ومقابلته لأول مرة، وأحياناً أقول: هل أنا في خيال أم في واقع. دلفت رجلاي الباب ولسان حالي يخاطب عملاق الفن اليمني الأصيل قائلاً: يا أيها البحر الذي ملأ الزبرجد ضفتيك أهل الفنون جميعهم يتتلمذون على يديك ولحونهم بك أعجبت.. وجثت تُقبّل ركبتيك عندما سمع أبياتي أصغى لها مبتسماً ووثب واقفاً على ساقية يُسلم عليَّ بلهفة وشوق وكأني صديق قديم له. تبادلنا أطراف الحديث الذي استمر لساعتين مضتا كدقيقتين. سألني عن عملي فقلت له: خريج بلا عمل، فقال لي: يا ولدي نحن في اليمن كلنا مهمشون. اندهشتُ وأصابتني صاعقة الذهول من كلمة أيوب (كلنا مهمشون).. فنان بحجم الوطن يشكو التهميش يا للغرابة! ياللدهشة! ياللعجب. أحترتُ كيف، ومن أين أبدأ السباحة في بحر واسع الشطآن ثكلت كلماتي، وفُض فاي، وخرست لساني، وأصابني العي، والتعتمة واللعثمة عندما بدأت بفتح مجلد الأيوبيات، ألم أقل مجلدات. وأنا بجانبه وأفكاري تلاعبني مرة، وتراودني أخرى حينما كانت سابحة تختال بلابل الرياض، وحقول الرعية، وشياه الرعيان، والظباء والمطر، وعناء المغترب، وفرحة العرسان.. فوجدت أيوباً قد أعطى جلّ حياته لها، وكل عمره للوطن. ذوو الأحاسيس المرهفة أقشعرت جلودهم، واجترت تناهيدهم من أخمص أقدامهم حتى فروة شعورهم، بكوا وضحكوا مع أيوب وألحانه العسلية، ولا حبذا العسل مقارنة بألحانه.. إنه عملاق تتعملق بمعيته الوطنية، إذ ذُكر أيوب ذُكر الحُب. إذا ذُكر أيوب ذُكر الوطن، أيوب أأنت الوطن؟ أم الوطن أنت؟ أأنت الحب؟ أم الحب أنت؟ كنت أنظر إليه أحياناً نظر الصمت والصمتُ في حرم العظماء عظمة، خاطبته بلغة البسطاء والحكماء فوجدته بسيطاً وحكيماً.. يالدماثة أخلاقك وبساطتك، وقوة حكمتك، وجدناه كريماً حينما أكرمنا بوقته، وكلامه، وتواضعه، وطعامه، وشرابه. طلبنا منه الصور التذكارية فوافقني وبلهفة وأمر حفيده محمد صلاح أيوب طارش ليصوّرنا، لك أيامي وشوقي وحنيني يا أيوب القلوب، أنت روحي.. أنت ما لملمته من منى العمر وأحلام السنين.. ما من قلب إلا ويهفو إلى سماع لحن أيوب وأغانيه الشجية العذبة، حتى أن أحد رجال الدين الناسكين وهو صديق لي جلست يوماً وبينما أنا غارق في التفكير شارد الحس بدأت أهمهم بأغنية تليم الحب في قلبي تذكّرني بأيام الهثيم فشعرت بالإحراج بجانب صديقي الناسك عندما عاد لي شعوري، فتوقفت عن الغناء. وأنا لا أعلم أنه منسجم معي ويردد معي الأغنية بصوت خافت، فعندما انقطعت عن الغناء قال لي: سألتك بالله واصل واصل. فواصلت، والمطوع الناسك الخطيب يتمتع، وطلب أن نغني معاً أغنية مكانني ظمآن وغيرها، وكلانا نستمتع باللحن الأيوبي الطازج البعيد عن كربونات العصر، يا لعذوبة لحنك يا أيوب، إنه رقراق سلسبيل، زلال رنّان. وكلمات أغانيك منتقاة، خالية من الشوائب والنوائب، لها جرس موسيقى أخاذ مؤثر في الخلجات، والأحشاء، والترائب، والوجدان. ما من محب، ولا مزارع ، ولا راعٍ، ولا مغترب، ولا عريس إلا واستمتع وتلذّذ بعودك الفريد، ونبرات صوتك الفريدة. حتى وإن رحلت إلى بعيد مثلما صديق دربك الفضول فقد زخرت بك ملايين العقول اليمنية، وتفنّنت بك الألسن الوطنية، وتهجلت بك المهاجل الزراعية، وشاركت العرسان بعقودك الريحانية. تاريخك يا أبوب ناصع البياض مطرّز بعقود اللؤلؤ، مكتوب بماء الذهب مهما قلت عنك وملايين اليمنيين لم نفِ بحقك. ودعتُ أيوب وكلانا لا يريد الوداع لكن طبع الحياة اجتماع، وفرقة، ودعتك يا أيوب وأنا أعد الأيام للزيارة القادمة إن شاء الله. حفظك الله لنا وللوطن الذي وضعته نصب عينيك وهو يهمشنا ويهمشك.