كان يسعدني فيما مضى إذا ما نعتني شخص ما بالتشدُّد؛ على اعتبار أن التشدُّد في هذا الزمن المتفسّخ ما هو إلا الاعتدال بأم عينه، فلم أكُ إلى وقت غير بعيد أجد حرجاً من تهم التشدُّد والتطرُّف؛ بل على العكس كنت أعدّها شهادة لي أمام الله عزّ وجل تمسّكاً بقاعدة «الزم طريق الحق ولا يضرّك قلّة السالكين، وتجنّب طريق الباطل ولا يغرّك كثرة الهالكين».. كنت أعتبر نفسي من المتشدّدين، وكنت أفتخر وأفاخر بذلك حتى رأيت الجنود يُذبحون بطريقة يهتز لها روح الكون، ورأيت انفجارات يذهب ضحيّتها دون ذنب الكثيرون من الأطفال والشبان والعجائز ممن ليس لهم ناقه ولا جمل وليس لهم أية صلة بالعدو المزمع المرسوم في أذهان المفجّرين، عندئذٍ أدركت واكتشفت متأخراً أن ثمة تشدّداً وتطرفاً غير التطرف الذي أقصده..!!. فثمة بون شائع بين التطرف البريء المرسوم في ذهني وبين التطرف الجريء المترسخ في قناعات هؤلاء المغلوطة، فما كنت أقصده أنا هو التشدُّد في أداء الطاعات التعبدية كالصلاة والصيام والأذكار ورفع سقف النوافل والالتزام بالآداب الدينية ما استطعت، وليس الاختلاف حول ذبح المسلم لأخيه المسلم؛ أو بالأحرى ذبح الإنسان لأخيه الإنسان، فهذا ليس عليه خلاف ولا يختلف عليه اثنان «اثنان أسوياء» ولعل أبرز شواهد التطرف وأدلّة عدم إمكانية تبريره هو أن إدانته ونبذه تأتي حتى من الأطراف التي تنتمي إلى نفس التيار الذي انبثق منه. لماذا تنبثق إدانة التطرف حتى ممن ينتمون إلى نفس التيار الذي يعبّر عنه..؟!، الإجابة: لأن الفعل «الإجرامي» المقترف يتجاوز كل المعايير الدينية والإنسانية والأخلاقية بشكل غير منطقي، بل يتجاوز حتى الأخلاق الإجرامية نفسها، ويتجاوز حتى الحدود الأخلاقية التي يلتزم بها المجرمون أنفسهم..!!.. ولأني خريج قانون، فلقد درسنا في الجامعة أنه حتى المجرمون لهم أخلاق أو حدود أخلاقية لا يتجاوزونها في ذروة تنفيذهم لعملياتهم الإجرامية، من ذلك أن المجرم «وهو مجرم ورغم إجرامه» لا يمكن أن «يسمح لنفسه» بالاعتداء على امرأة أو طفل أو عجوز أو أسير أو رجل في السوق أو مسجد باعتبارها مقدّسات دينية وحرمات شديدة تلامس آخر ما تبقّى من المخزون الاحتياطي القيمي والخطوط الأخلاقية الحمراء التي لا يسمح لنفسه بتجاوزها لئلّا يسقط سقوطاً لا رجعة فيه أمام الله عزّ وجل وأمام المجتمع وأمام نفسه أيضاً، ومن صور ذلك؛ فقد قام لصٌّ في الولاياتالمتحدةالأمريكية بسرقة كاميرا من سيارة، لكنه أعادها بعد أن عرف أن صاحبتها مريضة بالسرطان وهي تقوم بأخذ صور لنفسها بهذه الكاميرا لأطفالها حتى يتذكّروها بعد مماتها. - وقام لصٌّ في السويد بتحميل محتويات لابتوب كان قد سرقه على فلاش ميموري “USB” وإرساله إلى صاحب الجهاز، تعود القصّة عندما ترك أستاذ جامعي سويدي حقيبته دون رقابة وفي داخلها كمبيوتره وقد سُرقت هذه الحقيبة؛ الأمر الذي أحزن الأستاذ لأن الكمبيوتر يحتوي على أبحاثه ومحاضراته خلال 10 سنوات، لكنه فوجئ بأن اللّص أرسل إليه فلاش ميموري يحتوي على الأبحاث والمحاضرات..!!. - واقتحم لصُّ في ألمانيا بيتاً من أجل سرقته ليجد في داخلة جليسة أطفال أرغمها على السكوت مستخدماً سلاحه، لكنه انسحب من البيت فور رؤيته طفلين في البيت يعرضان عليه مصروفهما حتى لا يؤذيهما؛ الأمر الذي جعله خجولاً من نفسه لينسحب من البيت دون ارتكاب السرقة..!!. - وقام لص في أستراليا بسرقة سيارة مفتوحة النوافذ، وكانت غنيمته عبارة عن هاتف جوال ومحفظة، وعندما فتح اللّص الهاتف الجوال وجد فيه صور تحرُّش بأطفال الأمر الذي أثار غضبه، وهو ما دفعه إلى تسليم نفسه معترفاً بسرقة هذا الجوال فقط من أجل القبض على صاحبه الذي تبيّن أنه في ال46 من عمره، صاحب الهاتف انتهى به الأمر في السجن بعد التحقيقات. - وقام لصٌّ بسرقة سيارة لكنه سرعان ما أعادها بعد اكتشافه أن هناك طفلاً في داخلها، فقد عاد بالسيارة إلى المكان الذي سرقها منه ليجد الوالدين مذعورين فوبخهما على ترك طفلهما دون رقابة، ثم هرب.. وغيرها من الصّور والأمثلة التي انقرضت في واقعنا العربي لتؤكد أنه قد «ذهب من كل شيء أحسنه، حتى السرق» فلقد أصبحنا إزاء جيل من المجرمين الذين لا يلتزمون حتى بالحدود الأخلاقية للمجرمين في تأكيد لا يُقاوم لحقيقة التطرف الديني؛ لنجد أنفسنا نحن المعتدلين في ورطة حقيقية بين المتطرفين الدينيين الذين لم يفهموا من الدين إلا الذبح والتفجير والمتطرفين العلمانيين الذين يتحسّسون حتى من الصلاة على النبي «صلوا عليه وسلّموا تسليما» فبين من يريدون ذبح الناس ومن يريدون ذبح الدين نقف نحن في مأزق، ولكننا على يقين تام أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لو عاد إلى الحياة لما أقرّهم الطرفين. وختاماً.. نقول إن لسان حال هؤلاء المتطرفين من الطرفين يكمن في تلك الطُرفة الحكيمة التي تحكي أن إبليس يرد على فرعون الذي يستنجد به أثناء اقتياده إلى النار مذكّراً له بأنه سبب إغوائه فيقول له: «لم أعلّمك أن تتجرّأ على الله وتقول "أنا ربكم الأعلى" فحينما سمعتها أصابتني قعشريرة»..!!.