يُعدّ مبحث أصول الفقه من العلوم المشاركة في بناء النموذج الذهني للعقل العربي، ويمكن أن نشير من البداية إلى طبيعة التنميط الثقافي الذي مارسه علم أصول الفقه على العقل؛ فالأصول التي وضعها الشافعي كانت كلّها تكريساً لنموذج قياسي لا تاريخي؛ أي أنها جعلت العقل العربي أسير مرحلة تاريخية معيّنة، بل حتى عندما اشتد الوعي بضرورة التحرّر من التاريخ، لم يقطع الفكر العربي في الواقع مع هذا الفعل العقلي القياسي، وإنما ولّى وجهه فقط لتاريخ آخر، وفي الحالتين معاً نواجه نفس الآفات؛ الانبهار بواقع تاريخي مغاير، والذهول عن معطيات وضعنا التاريخي المحاين.. من هنا جاءت ضرورة تجديد الفكر الأصولي، وفعلاً شاع وعي حادّ براهنيّة الاشتغال بالمقاصد كنمط تنظيري يقطع مع طريقة الشافعي القائمة على القياس، لكن مع هذا الوعي، فإننا نعتقد أنه من غير الوعي بالجذور التاريخية للمنظومة الأصولية، فإن الفكر العربي سيظل متأرجحاً بين التقليد والإبداع الحضاري، من غير حسم قاطع، وبالتالي فإن تعثُّر مسيرة الاجتهاد المواكب الحُر هو المآل الدائم لأي فكر إصلاحي. لكن ماذا نقصد بتاريخية الأصول..؟ إننا كثيراً ما نقع على مفهوم التاريخية في كتابات الباحثين الحداثيين، لكننا في الغالب لا نجد توضيحاً كاشفاً لمضمون هذا المفهوم، إننا لا نقصد هنا أن الأصول غير مفارقة؛ أي أنها ليست ميتافيزيقية، بل ما نودّ أن نشير إليه في هذه المقالة أن الأصول الفقهية كما هي مبسوطة في كتاب “الرسالة” للإمام الشافعي، إنما كانت إسهاماً فكرياً وانخراطاً في حوار تاريخي بين أطياف فكرية متعارضة، بعبارة أخرى لم يؤلّف الشافعي كتابه ابتداء، من غير التفات إلى الجدل المحتدم، إنه لم يكن كما هو شائع في أدبيات الفكر التقليدي تفريغاً قرآنياً لفلسفة التشريع الإسلامي، وإنما كان لبنة من لبنات التراكم المعرفي، أو بالأحرى انتصاراً لتيار أيديولوجي معيّن. إن رسالة الشافعي تسمح لنا من غير شك تأييد وتزكية هذا الرأي؛ فالكتاب كلّه تقريباً حرّر بأسلوب جدلي (فإن قالوا... قلنا) ما يعني أنّ الآخر كان حاضراً في فكر الشافعي، بل إن أصولينا الأول كان متخندقاً معلناً انتماءه لتيّار فكري معيّن. فكيف تتحدّد تاريخية الأصول إذن..؟ من خلال إلقاء نظرة عامة على اجتهادات الباحثين المعاصرين حول قراءاتهم لتشكُّل أصول الفقه، نجد أنّ ثمّة رؤى مختلفة وتأويلات متعدّدة، وإن لم تكن كما أرى تنقض بعضها البعض، بل إن كلاًّ منها يكمل الأخرى، وليس أدل على ذلك من قول الدكتور عبد المجيد الصغير، وهو بصدد التمهيد لتقديم رؤيته لتبلور الأصول “بالرغم من خصوصية المقاربة التي في ضوئها تناول الأستاذ محمد عابد الجابري نشأة علم الأصول مع الشافعي فإنه يعترف قائلاً: “أما أن يكون لهذا الصراع حول الأصول في مجال التشريع أبعاداً اجتماعية وسياسية؛ فهذا ما ليس من مهمتنا الخوض فيه هنا”، و يضيف د. الصغير: “ونحن نسمح لأنفسنا بإبراز تلك الأبعاد”. إنّ الجابري يرى أنّ أصول الفقه لابدّ من البحث عن سياقها التاريخي داخل الأبحاث البيانية التي بدأها اللغويون، بمعنى أنه لا يمكن الربط بين الفلسفة الدخيلة أو “علوم الأوائل” وعلم أصول الفقه، ويستند في ذلك على عدّة مستندات، منها معاصرة الشافعي لكبار اللغويين، الخليل وسيبويه، فقد استشفّ الجابري من قراءته للرسالة تأثّر الشافعي بمنهجية اللغويين، لقد نظر الخليل في سحر البيان ألفاظاً وأوزاناً، وحدّده سيبويه إعراباً ونحواً، من هنا سيطرح الشافعي استكمالاً لهذا العمل سؤال “كيف البيان؟” أي تحديد علاقة المبنى بالمعنى في النصّ المؤسّس، يقول الجابري: “لقد تمّ البيان العربي على مستوى المبنى (النحو) وعلى مستوى المعنى من جهة ثانية (معاجم اللغة) فلماذا لا يقنّن على مستوى علاقة المبنى بالمعنى، وفي النص الديني الأساسي، ويكون ذلك طريقاً ملكية إلى جعل حد للفوضى الضاربة أطنابها في مجال التشريع، فوضى التضخم في الحديث والرأي سواء بسواء”..؟!. أمّا عبدالمجيد الصغير فقد حاول في أطروحته القيّمة “الفكر الأصولي وإشكالية السُلطة العلمية في الإسلام” أن يستخلص تلك الدواعي السياسية التي يمكن أن تسهم في نشأة علم أصول الفقه، وينطلق من الصراع الحاد الذي شهده تاريخ الإسلام بين السلطتين العلمية والسياسية، وليس أدلّ عليه من كثرة المحن التي اكتوى بنيرها العلماء بسبب مواقفهم المعارضة للسُلطة السياسية، يقول الصغيّر: “إنّ وقوفنا على جملة محن رجل العلم اتجاه مالكي السُلطة السياسية، ليعتبر أفضل تمهيد لفهم وتلمس بعض المعطيات الواقعية التي أحاطت بنشأة أصول الفقه في الإسلام”. إنّ عبدالمجيد الصغير يرى أن الخلفاء في الحقبة العباسية عملوا على الحدّ من سُلطة العالم المعرفية، وقد كان كتاب “رسالة الصحابة” لابن المقفّع استجابةً لطموح السلطة السياسية لتكريس رأي الحاكم الواحد وإبعاد الآخر، والآخر هنا ليس سوى العلماء الذين ينافسون الحاكم على استمالة الجمهور إلى صفوفهم، يشير إلى هذا عبدالمجيد الصغير بقوله: “ولعل رسالة الصحابة لابن المقفّع لا ترمي إلى أكثر من الاضطلاع بهذه المهمّة التي تقصد إلى تقديم مشروع ظاهره إداري تنظيمي وهدفه إيديولوجي سياسي، يصب في نفس الرغبة الأثيرة لدى رجل السُلطة السياسية، الاستبداد بالسيف”. من هنا، فإنّ عبدالمجيد الصغير يقدّم قراءةً مغايرةً لرسالة الصحابة، لقد رأى الكثيرون في هذه الرسالة دعوةً إلى تقليص سُلطة الحاكم، وذلك لوقوفهم الظاهري عند تنصيص ابن المقفّع على عدم طاعة السلطان في معصية الخالق. أما الصغير فيرى أنّ تنصيصه هذا تحصيل حاصل، فكأنه يومئ إلى الأسلوب الملتوي الذي وظّفه ابن المقفّع في رسالته، ولسان حاله يقول إنّ ابن المقفّع يقرّر عدم جواز طاعة الحاكم فيما يعارض نص حتى يحفظ صلاحية هذا الحاكم فيما ليس فيه نص، إذ لو تجرّأ الحاكم على تجاوز حدود الشرع؛ فإنه سيسقط من أعين الناس، وسيلتجئ الجمهور إلى العالم المحافظ على حمى الله، ممّا سيؤدّي إلى تناظر العالم والحاكم، وهذا ما يرفضه ابن المقفّع ومن باب أولى السلطان. إذن، فرسالة الإمام الشافعي يجب أن تُقرأ كردّة فعل على رسالة الصحابة لابن المقفّع، لقد أراد من تأليفها إعادة الاعتبار إلى العالم وتحقيق مركزيّته في المنظومة التشريعية، ومحاصرة رجل السُلطة السياسية، بل وإعجازه عن إبداء الرأي في مجال لم يضرب فيه بيده؛ أي العلم الشرعي وإبداء الرأي بالفتوى. وهذا الصراع بين السُلطتين قد عايشه الإمام الشافعي منذ شبابه، وهو طالب علم، إن ذاكرة الإمام الشافعي كانت محفورة بمشاهد عن تعارض السلطتين السياسية والعلمية بل وتنافرهما، ودوننا الرواية التي يحكيها الشافعي نفسه عن بداية رحلته إلى الإمام مالك في المدينة، قال: “دخلت إلى والي مكة، وأخذت كتابه إلى والي المدينة ومالك بن أنس، فقدمت المدينة فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلما قرأه قال: يا فتى إنّ مشيي إلى جوف مكة حافياً راجلاً أهون عليّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذُّل حتى أقف على بابه، فقلت: أصلح الله الأمير، إن رأى الأمير يوجّه إليه ليحضر، فقال: هيهات، ليت إنّي إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من العقيق، نلنا بعض حاجتنا، فواعدته العصر، وركبنا جميعاً، فوالله لكان كما قال، لقد أصابنا من تراب العقيق، فتقدّم رجل فقرع الباب، فخرجت إلينا جارية سوداء... فقال لها الأمير: قولي لمولاك إني في الباب، فدخلت فأبطأت، ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام، ويقول إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف”. إن هذه الرواية التي ظلّت محفورة في ذاكرة الشافعي لا شك أنها ولّدت لديه وعياً بتقابل وتصادم السُلطتين، وأن هذا الوعي بالصدام قد ظلّ حاضراً لدى الإمام الشافعي، من هنا يلاحظ عبدالمجيد الصغير غلبة المفاهيم السياسية في كتابه، مثل الأمر والنهي والوجوب والحكمة والرأي وأولي الأمر والطاعة، إن فهرس المفاهيم الذي وضعه أحمد شاكر للكتاب كما يقول عبدالمجيد الصغير طافح بالمفاهيم السياسية. إنّنا نرى أنّ هذا النقد التاريخي للمنظومة الأصولية يمكّننا من التعالي على الإشكالات التي يطرحها الفكر التقليدي، من هنا فنحن لا نتفق مع المسار الذي خطّه د. عبدالمجيد الشرفي في كتابه “الإسلام والحداثة” حيث خصّص الفصل الخامس لإثارة شبهات حول تلك الأصول المعروفة. إن د. الشرفي بهذا يكون قد انساق وراء هذا الخطاب ولم يقطع مع إشكالاته المطروحة، إن تطوّر الفكر كما تخبرنا الدراسات الإبستمولوجية لا تتم إلاّ من خلال طرح أسئلة جديدة لا باستئناف الإجابة عن سؤال قديم.