كناتج طبيعي لمدنية الفرد؛ تنشأ مدنية المجتمع وتتحقّق المدنية المجتمعية بعدد أفراد المجتمع الذين يؤمنون بالمدنية كخيار تعايش، مؤسّسين بذلك لوعي الدولة التي تعتبر انعكاساً لمدنية المجتمع، هكذا تبدأ العملية المتسلسلة للتراكم المدني المحقّق لعقلانية الوعي.. ففضيلة مدنية الفرد تقود التحوُّل العميق نحو أفق المدنية الراشدة، متجذّرة بعمق في الوعي المكتمل بالحرية, عاكسة ذلك في الواقع فكراً وسلوكاً، مغذّية الزاد اليومي بجرعات المناعة الواقية من الانتكاسات المعيقة للسلوك الإنساني الحضاري المبدع، فعلى قدر عمق ثقافة الفرد مدنياً تترسّخ مدنيته الفكرية والسلوكية، مدنية نابعة من جذور التربية الحضارية وعمق المنهج التعليمي المستقي روحه من الفكر الصائب. إن توهُّج ثقافة الفرد - المجتمع - واستنارتها بالحق والعدل والحرّية، تتيح للفرد – المجتمع - أن يعمّق اكتسابها خلال مسيرته الحياتية تربوياً وعلمياً وعملياً؛ بما يحقّق وصولنا إلى مدنية الدولة التي أساسها المساواة وتحقيق العدالة المتحقّقة بشرطية مرورنا بمدنية المجتمع القائمة على مدنية الفرد، فينعكس الواقع في ديناميكية حركته سلوكاً مدنياً راقياً. الفرد العربي اليوم مطالب بإنهاء حالة القطعية مع الحاضر العصري والمستقبل المنشود؛ وذلك لن يأتي إلا بتغيير استراتيجية الحركة الثقافية وتمدينها بما يعمّق لدينا تفكيراً مدنياً واعياً، لنصل إلى مرحلة الثقافة المدنية الناضجة والفاعلة التي تتكامل مع منظومة القيم المحقّقة للخير والرفاهية، والمستجيبة للتغييرات الكونية المحتومة، في إطار التصاعد الحثيث للبناء الحضاري العالمي. مدنية الفرد كطريقٍ إلى التغيُّر يعتبر ولوج الفرد إلى مدائن المدنية وإيمانه بها كطريق آمن للتغير هي الضرورة القائمة والمتطلّب الأهم لخروجنا من عنق زجاجة الحاضر المأساوي الذي نعيشه في عالمنا الثالث والعربي على وجه الخصوص، فواقعنا وما يحمله من مرض وظلم وتخلّف وإرهاب وتطرُّف هو ناتج عدم مدنيتنا وانشدادنا إلى دوامات العنف الدينية والمذهبية السياسية والعرقية, ذاك الانسداد الذي اختطفنا من العصر لنكون خارج دائرته ابتداءً بالفكر وختاماً بالسلوك. إنه ولكي نحظى بفرص تغيير حقيقية تعالج إشكالاتنا المجتمعية الفكرية والتربوية المعنوية والسلوكية، منتصرين على تلك الإشكالات التي تعيق حركتنا المدنية بما تضعه من عراقيل أمام تحرّرنا وواقعنا، صانعة ألم التخلُّف بكافة انعكاساته، من أجل ذلك كلّه لابد من وعي مدني فردي كي ننسجم جيداً مع رغباتنا في حياة أفضل, حياة تحقّق إنسانيتنا وتتواءم مع العصر الذي نعيشه متماهية مع الحداثة كحق إنساني معاصر. إن تطوّرات المدنية المعاصرة هي ناتج طبيعي لصيرورة تراكم حضاري عبر امتداد القرون، والبدء دوماً يكون بمدنية الفرد وتقبّله للمدنية كسلوك حضاري, مقدّماً إسهامات عالمية تتكامل في ظل التفاعلات الحضارية ومكوّنة في محصّلتها النهائية تطوّراً بشرياً ساحر المعالم, وذلك هو التغيير الذي يجب أن يتم وفقاً لروح المدنية التي نبضها عدالة ومساواة وحرّية. فحجر الزاوية تتمثّل في مدنية الفرد أولاً، كي تترسّخ مدنية المجتمع وتتكامل بمدنية الدولة فتعطي كل وحدات الحركة والديناميكية اللازمة للفعل الجيّد في إعادة تشكيل الأمّة المجتمعية مدنياً، وبما يحقّق مد شرايين الحياة بين جنوب العالم وشماله مروراً بالوسط. إن تخوّف الفرد العربي وبالتالي المجتمع بغالبيته من الفكر المدني، مرجعه الأساسي سطوة الخطاب الذي اعتمد على فرضية تصوّر خاطئ مفترضاً علاقة طردية بين المدنية وثقافتها من جهة، وتفسُّخ المجتمع وانحلال ذاكرته التاريخية من جهة ثانية، معلّلين ذلك بأنه يسمح بغزو المجتمع، ويهيّئ مناخات ربطه بدوائر بعيدة عن تضاريس بيئته وفكره الاعتقادي الدّيني والقومي والمذهبي؛ وهذا ما سنناقشه في عدد قادم بإذن الله.