الأوضاع تزاد سوءاً.. هكذا تحدث لسان حال المواطن اليمني بعد عام ونيف تضاعفت فيه همومه نتيجة الأوضاع السياسية القائمة.. أوضاع يدمى لها الجبين وتئن لها الجبال، أوضاع أخبرت العالم بهموم هذا الشعب المسكين الذي ظل يتجرع الألم منذ عقود ليتضاعف ألمه أكثر في العام الماضي.. فعلاوة على البطالة التي يكابدها الشباب والقصور في كافة الخدمات العامة للمواطنين، والفساد الذي أثقل كاهل مؤسسات الشعب واستباح أموال اليمنيين مثلت معاناة العام المنصرم تحدياً غير عادي للإنسان اليمني رغم ما يقال عنه أنه شعب صبور ومتكيف مع الأوضاع المتردية إلا أن للصبر حدودا. التحدي الذي نشير إليه أتى بعد أن تأكد للمواطن العادي أن هناك عقابا يطاله بسبب دعمه كغيره من ملايين اليمنيين لثورة شبابية سلمية ركنت السلاح اليمني جانباً لتنطلق الحناجر والأصوات تطالب بمنتهى السلمية بحقوق عقود من المعاناة. لقد كان تحدياً صارخاً ضد نظام احترف إشعال الحرائق في كل مكان وأوقد من الأزمات نيراناً أبقته على مدى أكثر من ثلاثين عاماً على صدور اليمنيين يجعل من مآسيهم أسباباً لنيل حسنات من جيرانه ويتسول بها جيوب المانحين الدوليين. نعم.. إن الأوضاع تزداد سوءاً بسبب سياسة كهذه أنهكت الحاضر وحولت المستقبل مجرد كوابيس يعيشها المواطن خوفاً من المجهول القادم، فالتعليم يخرج الجهلة وأنصاف المتعلمين، والمستشفيات تسرق الأموال وتبيع الأسقام وتصدر المرضى نحو العيادات الخارجية، وحقوق مستباحة ومسلوبة، وغد حالك الصورة. وحين أراد اليمني العزيز أن يثور باحثاً عن قبس من أمل ثارت عليه ثائرة الفاسدين فأرادت أن ترديه قتيلاً وتخنق أحلامه، غير أن ذات النظام الذي روج للموت عقوداً لم يدرك أن اليمني يستحلي الموت ليقينه أن الحياة في ظل عهد كهذا هو الموت بعينه، فأولى له أن يموت شهيداً كريماً على أن يستسلم لموت مهين، فكلاهما سيان. لم يدرك ذلك المواطن البسيط أن هناك أياديٍ خارجية تساهم في تأجيج معاناته، فالتدخل الخارجي أوجد باضطرابات اليمن بيئة خصبة للهرولة نحو أوهام السيطرة على جوهرة تغري نفسها وتعلن عن مفاتنها وتطرح أعز ما تمتلكه لكي ينهشه المتربصون من الخارج. فهناك التدخل الإقليمي والدولي الذي أثقل كاهل البلاد بقرارات ومقترحات تخدم أهواءهم ومصالحهم قبل أن تخدم تراب هذه الأرض ومن عليها من مواطنين، فأمست اليمن ساحة لصراع الآخرين كلٌ يتجاذبها نحوه، فما يحصل اليوم من صراع على بلد ينعم بكل الخير والبركات هو صراع يحمل كل دلالات التصنيفات المقرفة التي ترمي بشمولية الانتماء للوطن وتحتضن ما دونها من صغائر الانتماءات الضيقة سواء منها الطائفية أو العقادية المذهبية أو المناطقية أو حتى الاقتصادية والسياسية. يؤكد ذلك موضوع الإرهاب الذي بدأ يبرز بين الحين والآخر في خضم هذه الأوضاع والتي كان من أهم معالمها كانت آخرها سيطرة تنظيم القاعدة أو بما يسمون أنفسهم بأنصار الشريعة على مدينة زنجبار بمحافظة أبينجنوباليمن وبعض المديريات الأخرى. التدخل الإيراني وغير بعيد عما سبق من تدخلات، يلوح بالأفق التدخل الإيراني والذي يعمل على ضخ الأموال لشراء ولاءات الشباب والوجاهات الاجتماعية والشخصيات المؤثرة ذات القيم والمبادئ المتذبذبة كما هناك شراء لولاءات قبلية وحزبية من دول إقليمية فالتدخل “الإيراني “ له منطلقاته الفكرية والعقائدية الذي يبحر به بحراً ويلحق به جواً في اليمن عبر جماعة “الحوثي” التي رفعت السلاح في وجه الدولة منذ 2004م وتخطو خطى العنف والدمار، ومدينة صعدة ومركز دماج السلفي شواهد على ذلك. وهناك ما يجعل خطر التدخل الإيراني أخطر من غيره، فالتوجه إلى إنشاء القنوات الفضائية الموالية والصحف والمجلات ومختلف الوسائل الإعلامية، ومنحها لحفنة من الشباب والسياسيين ممن تدربوا وتأهلوا على أيادي حزب الله وملالي إيران جعل من انتهاج نشر الأفكار التوسعية الفارسية أمراً في غاية الخطورة. وكل التدخل في الشأن اليمني شر، فلا الأمريكان يسعون لخيرنا والإيرانيون الفرس يجتهدون من أجل اليمن، فقط مصالح تتجاذب اليمني البسيط وتطحنه وتزيد من معاناته. قد يطول الحديث على إطلاقه عن الوضع في اليمن، غير أن ما نحاول أن نجعله يغني عن الوضع العام هي النماذج الميدانية التي امتزجت معاناتها بمآس يومية تتكرر ما امتدت الحياة، وتشاهد صورة طبق الأصل كأنها هي مهما طال بنا العمر، فلا جديد في حياة اليمني قبيل الثورة، فكل اللحظات سواء، حبلى بالضيم والكد والنصب. أمجد وحتمية التغيير أمجد ياسين شاب يمني يعول أسرة ليست بالصغيرة، ممتلئ حباً لتربة وطنه، ابتعد عن ذلك التراب المقدس لسنوات، خيل إليه إنه ذهب ليغترب حتى يعود وهو يحمل ما يثبت حبه لوطنه. ذهب للدراسة في الأردن في مجال “المحاسبة” ليصبح صاحب مؤهل يؤهله على خدمة بلده الحبيب بشكل علمي وعصري ليساهم في انتشاله مما هو فيه. تخرج أمجد وملؤه الفرح والشوق لأرضه وأهله وناسه وليعمل في وطنه، غير أن الواقع الذي التهم اليمن طيلة الثلاثة العقود الأخيرة يكفر بكل أحلامه ومستقبله، فاستحالت أشواقه ولهفته وحماسته إلى قنوط ويأس من مثل هكذا وضع غير صحي وغير مشجع لكل الكفاءات والقدرات اليمنية. ولم يكن أمجد أول يمني يصدم بهذا الواقع اليمني، فملايين الشباب اليمني من حملة الشهادات العليا حتى يمموا وجهتهم صوب الدول الخليجية للعمل في وظائف وأعمال هي أقل من مستوياتهم العملية، غير إن عسر الحال هو ما دفعهم إلى ذلك، وسياسية النظام الفاشل هي من أجبرتهم على إطعام فلذات أكبادهم وأهاليهم من أعمال ما كانوا ليعملوا بها لولا الحاجة وعدم استشعار المسئولية تجاه المجتمع من قبل المتنفذين الفاسدين ممن استولوا على حكم اليمني حين غفلة من أهلها. وكغيره من الشباب ارتضى أمجد أن يعمل في وظيفة زهيدة العائد في شركة تجارية صغيرة في القطاع الخاص رغم أن شهادته تخوله للعمل في أرفع الشركات الاقتصادية في البلاد، وظل على حاله هذه سنوات، يساعد والده في إعالة أسرة مكونة من سبعة أشخاص، حتى فاجأت الأيام أمجد وأخذت منه والده، ليمضي هو في مسيرة الحياة التي كلما سار فيها ناولته مزيداً من الأثقال على كاهله، وهاهو يدرك أنه قد فرض على اليمنيين أن يعيشوا حياتهم دون أن يكون لحكومتهم أدنى تدخل أو حتى عون. مرت الأيام وظل أمجد يصارع الحياة بالأمل والتفاؤل، فكلما سقته الدنيا علقماً منحها صبراً وتحدياً، وظلت المناولة على حالها حاملاً في قلبه أملاً وفي يديه عملاً. يقول أمجد: رغم الألم إلا أني أستشعر الأمل في قلبي ووجداني، وبقيت على ما أنا عليه موقن بإيمان أن الله سبحانه وتعالى سيجعل لصبر اليمن مخرجاً ولو بعد حين، حتى اندلعت شرار ثورة 11 فبراير المجيدة في العام الماضي،حينها أيقنت أن التحول والتغيير الذي ينشده ملايين اليمنيين لحياتهم قد بدأ ومن غير المعقول أن أبقى متوارياً بعيداً عن المشاركة في ثورة جددت الأمل وأيقظت الأرواح فالتحقت بركب الشباب الثائر الذي أخبر العالم من خلال فعالياته الثورية وسلميته التي أذهلت الدنيا وأكدت أن الشعب اليمني خرج لانتزاع حقوقه المنهوبة منذ عقود، خرج يستعين بالله وبقلبه أمل يستثير همماً طامحة هي تناطح بعزمها قمم الجبال. خرج أمجد في صف إخوانه الثائرين الذين اتفق معهم على حتمية التغيير القادم، فكان يلتحق بركب المسيرات في بداية الثورة ولأجل ذلك كان يأخذ الإجازة تلو الأخرى من عمله المتواضع في الشركة التجارية الصغيرة حتى تجسدت الساحات والاعتصامات فكانت الملاذ الأول لأمجد ونظرائه من شباب اليمن بعد الانتهاء من دوامة في العمل. مرت الأيام وأمجد يكافح وينافح ويتألم لأجل الشهداء والجرحى ولأجل الدماء التي أريقت وأثقال وأعباء المعيشة تتكالب عليه خاصة وأنه يعول أسرته وإخوانه، ولم يكن النظام الزائل ليعلم إن في نفوس الشباب اليمني من أمثال أمجد ما يعنيهم ويصبرهم على خطوات العقاب الجماعي الذي عاقب به النظام الشعب،فإذا استثنينا عسر المعيشة كانت الانقطاعات الكهربائية تتضاعف،وخدمات المياه تغيب شهوراً، واسطوانات الغاز المنزلي تتلاعب بها أيادي المحتكرين التابعين للنظام، ولنقس على هذا المنوال كل ما يمكننا أن نعتبره عقابا فعليا على المواقف الثورية للشعب، ورغم ذلك لم تثن مثل هذه الإجراءات من عضد الثورة ولا شبابها، ويقول أمجد:كافحنا لأجل الشهداء ولأجل لقمة العيش أيضاً وهكذا واصلت عملي بالتوازي مع نضالي في الثورة. ويضيف الشاب أمجد عن مأساته التي ازدادت سوءاً: ما إن جاء شهر رمضان من العام الماضي ولم يكد يدلف علينا إلا وأفاجأ بقرار من الشركة التي أعمل بها بالاستغناء عني وعن 23 موظفا آخر وبسبب الأوضاع التي مرت بها البلاد حيث تكبدت الشركة خسائر كبيرة فاضطرت إلى الاستغناء عنا جميعاً مع صرف رواتبنا لمدة شهرين كتعويض للموظفين. ويتابع: في تلك الأيام من شهر رمضان والذي صادف شهر أغسطس أي الشهر السابع من عمر الثورة وأسعار الاحتياجات الأساسية ترتفع مرة بعد أخرى وهكذا حتى يومنا هذا، وكأن الله سبحانه وتعالى يمتحن صبرنا وثباتنا على الوضع العام وكأنه عز وجل يستنهض فينا عزائم الإرادة ويعلمنا أن النصر يذهب لمن يستحقه رغم الأهوال والمصاعب. فكانت الحياة تزداد على اليمنيين صعوبة ووعورة لتشمل الجميع، من شارك في الثورة ومن لم يشارك، تجسيداً لسياسة الأزمات وإشعال الحرائق والتخويف والترهيب والعقاب الجماعي، ومن ضمنها كان انعدام مادة النفط “ البترول أو الديزل” الذي تسبب في شحة المواصلات وارتفاع أسعار المواد الغذائية وكل ما يتعلق بالنفط من احتياجات. بالإضافة إلى كل ذلك أثرت الأوضاع السياسية بشكل كبير على مستوى الاقتصاد الوطني وإغلاق الكثير من المحلات على رأسها الفنادق والمطاعم،والمؤسسات والشركات الخاصة،ولايكن أن ينسحب كل ذلك على المظاهر الجمالية والبيئية التي تأثرت بإضراب عمال النظافة في اليمن. ورغم امتلاك أمجد لشهادة البكالوريوس من الأردن في مجال المحاسبة إلا أن أمجد ونظراءه الكثيرين في اليمن يعانون الآن معاناة كبيرة نتيجة كل ما سبق بتوفير لقمة العيش خاصة والأوضاع السياسية تزيد الحياة.. يتحدث أمجد قائلاً: أبحث الآن عن فرصة عمل خارجية “ اغتراب” ،ففرض العمل المحلية في حالة وجدت لن تغني عن أحوالي وأحوال أسرتي التي أعولها، كما إن القطاع الخاص في اليمن غير مضمون العواقب، خاصة في ظل وضع سياسي واقتصادي تعرفونه، والعمل الخارجي في أي دولة من دول الجوار حتى وإن لم يستمر إلا أني أستطيع أن أدخر منه ما يمكنني من العيش بشكل أفضل أنا وعائلتي، خاصة وأن الدين أثقلني جداً منذ أن تركت عملي الوحيد،وأملي في الله كبير وزاد من هذه الأمل زوال النظام السابق الذي أغرق البلاد والعباد في جهل علمي وتأخر اقتصادي ها نحن اليوم نحصد أخطاءه. مؤكداً أنه سيواصل مشواره النضالي في الثورة التي مازالت مستمرة،حتى تحقيق كافة أهدافها ومحاكمة المسئولين عن إيصال اليمن إلى هذا الوضع المتردي في كل المجالات والقطاعات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية،فبحسب قول أمجد إن النظام السابق لم يكتف بسرقة البلاد بل إنه أدخلها في أنفاق مظلمة تحتاج للكثير من الوقت والجهد حتى يتم ردمها أو فتح ثغرات لنبصر نور الأمل ونهزم الظلام. وبالرغم من الوضع الصعب الذي يعيشه أمجد إلا أنه يمتلك طموحاً لا حدود له، فهو من جانب يحلم ويسعى لإكمال دراساته العليا، على تكييف وضعه الأسري والمادي لتحقيق أحلامه، متباهياً بامتلاكه إصرارا وإرادة يدعمها حب العلم والسعي له ولو كان في الصين! طموح أمجد هذا هو ديدن ملايين الشباب اليمني الذين منحتهم الثورة زخماً وإرادة وصبغتهم بقيمها ومبادئها الحالمة التي لايمكن أن تغادر نفوس من آمنوا بها وأيقنوا أنها حق لابد أن يطبق على الواقع. جوانب نصر الإشارة إلى جانب القيم يحتاج إلى وقفة، فالثورة اليمنية بحسب مراقبين ومتابعين كان لها جوانب نصر أخرى بعيدة عن النصر السياسي الذي حققته بزوال النظام السابق،تمثلت تلك الجوانب بالإقبال على تطوير ذاته وانصياعه لحتمية التغيير في كل شأنه كان شخصياً أو عاماً، بالإضافة إلى الوعي الكبير الذي غرسته خيم ومراكز التأهيل والتدريب السياسي والفكري الذي شهدته ساحات الحرية وميادين التغيير في عموم اليمن. ومن الرؤى يمتلكها الشاب أمجد لخروج اليمن من أزمته السياسية التي تلت الثورة وخروج الرئيس السابق من سدة الحكم في البلاد هو منع بقايا النظام من مزاولة أي ممارسات “قذرة” تستهدف استقرار اليمن والإضرار بمصالحها ومستقبل أبنائها، وتوقع أمجد أن اليمن سيؤول إلى كارثة كبيرة اقتصادياً وأمنياً بسبب تلك الممارسات التي يمارسها النظام السابق، مستدركاً في ختام حديثه معنا إن اليمن ستشهد فجراً عقب ما ضحى به الشعب من دماء ومعاناة، فلابد للمخاض من آلام وأوجاع بعدها سنستمتع لكل ماهو جميل في بلد الجمال والإيمان. لم يكن أمجد سوى نموذج لملايين الشباب اليمني والأسر والعائلات اليمنية التي كابدت عناء التغيير المنشود، التغيير الذي كلف أرواحاً ودماء، غير أن لكل جمال ضريبته، ولابد لقاطف الورود من أن تجرحه الأشواك.