بدأ تركيز الإنسان الأول الذي استوطن الأرض على تأمين احتياجاته من الملبس والغذاء، واعتاد إنسان ما قبل التاريخ على العمل اليدوي لتوفير ما يحتاج إليه لعدم وجود الآلات، ومن خلال ملاحظته للأشياء من حوله، شكلت أساساً لاكتشاف الكثير من احتياجاته، ما لبثت أن تحولت إلى منتجات حرفية، وظل العمل اليدوي المصدر الوحيد لصنع هذه الأشياء لآلاف السنين، التي شكلت فيما بعد قاعدة النمو والتحضر والتطور.. أهميتها الحضارية غني عن البيان أن الصناعات التقليدية مكون أصيل للذاكرة الحضارية، وتراكم كمي لمخزون هائل منذ الآلاف من السنين من الثقافة والهوية، انتجت تغييرات نوعية من التفاعلات المجتمعية، تجسدت في عدة أنماط منها ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي وبيئي، انصهرت في مجملها سلوكيات ومهارات ومعايير وعادات وأعراف وأخلاقيات مجتمعية، انعكست في أشكال مادية ورموز تعبيرية تداولتها المجتمعات المختلفة باختلاف نمط الحياة وإبداعات بني البشر، ليكون عرضها وبيعها واقتنائها مكونات متكاملة، أصبح التأثر بها والتأثير في انتشارها سبباً في إعادة إنتاجها وفقاً لطبيعة وسائل الإنتاج المتوفرة لهذه الحرف. أهميتها التنموية لا يختلف اثنان بأن الصناعات التقليدية تلعب دوراً هاماً في عملية التنمية من خلال عناصر متعددة، تتضافر لتحدث قيمة مضافة في دعم الاقتصاد المحلي ومساقات التنمية، فبحسب ما يرى مهتمون أنها تغطي مدى بالغ التنوع والاتساع من المجالات الاقتصادية، كما أنها واسعة وقابلة للانتشار حتى لأصغر وحدة عمرانية قرية كانت أو حياً سكنياً، وكذلك لأصغر وحدة للنسيج الاجتماعي الحضاري وهى الأسرة .. كما أن مقومات نجاحها ذاتية من مواد وأسواق ومحصنة من الأزمات الاقتصادية على اختلافها، وتشارك في حل مشكلة البطالة من خلال توفير فرص العمل، كما أنها توفر فرص عمل للمرأة، التي لا تتيح لها ظروفها المختلفة كربة منزل مثلاً العمل في القطاع الرسمي، حيث تستطيع ممارسة الحرفة في الأوقات التي تناسبها، وفي الأماكن التي تختارها، أو حتى في منزلها، وتمثل الصناعات المنزلية بمختلف أطيافها نموذجاً مناسباً في هذا الإطار. وتتميز الصناعات التقليدية بقلة مدخلات التدريب كونها تنتج بالمجهود الفردي، وتنتقل اجتماعياً من الأب إلى الابن، ومن الجار إلى جاره، كل هذا مع عدم إغفال التدريب المرتبط بالمعرفة المنظمة والمنهجية التي تكتسب داخل المؤسسات الرسمية والخاصة.. و فوق ذلك كله فهي تمثل أحد أهم عوامل الجذب السياحي، و تدعم نسيج العلاقات الاجتماعية، وتمنع تحلله من خلال إضفاء وظائف اقتصادية جديدة في إطار نشر وتطوير الصناعات التقليدية المناسبة في كل مجتمع محلى. واقعها اليوم اختلفت معالم الصورة اليوم اختلافاً يكاد يكون كلياً، حيث تغير الهيكل الاقتصادي والاجتماعي ونمط الاستهلاك، وتغيرت الصناعات التقليدية، وتغير معها العمل بتغير الأدوات، وحلت محلها الأدوات والمعدات الحديثة، المرتبطة بالتغيرات التي عرفتها الأنظمة الإنتاجية على المستويات المحلية والدولية، اضف إلى ما مثلته العولمة من إزالة للحواجز الاقتصادية والثقافية وقيم وسلوكيات المجتمعات ونمط الذوق والعادات الاستهلاكية المختلفة، وزيادة حجم التبادلات الواسعة التي فرضها الاعتماد المتبادل، وزيادة التفاعل الاقتصادي والسياسي والثقافي والإعلامي والتنموي، وما تحقق على صعيد التقدم الهائل الذي طال جميع مناحي الحياة الإنسانية في اللحظة التاريخية، التي يعيشها العالم اليوم ترك آثاراً كبيرة على الصناعات الحرفية والتقليدية، التي وجدت اليوم نفسها مع الزمن في سباق غير عادل جعلها تفقد بريقها تدريجياً أمام تحول الورش والحرف إلى صناعة متكاملة، أغرقت السوق بمنتجات لا يمكن للحرفة أن تنافسها جمالاً وجودة وسعراً. كما واجهت الحرف تحديات أصعب، تمثلت في فتح الأسواق لمنتجات صناعية مستوردة، قضت على آمال الكثير من الحرفيين، ونقلت الجزء الأكبر منهم إلى أعمال ومهن أخرى، وبهذا خسرت الحرف والصناعات اليدوية عدداً مهماً من روادها، لتتحول مع الزمن إلى مشهد تراثي فلكلوري، وصارت مجرد ذكرى إن صح التعبير وذاكرة بحاجة إلى احتضان، يحفظ ما تبقى لها من ماء الوجه. في اليمن عبر الأزمنة المتعاقبة أبدع الإنسان اليمني في الصناعات الحرفية واليدوية المختلفة باختلاف السهل والوادي والساحل، فقدم أعمالاً ومشغولات رائعة في الجمال والدقة والإتقان، تنوعت أشكالها تبعاً للنوع من هذه الحرف، التي كانت تمارس من قبل أسر معينة، وظلت تتوارثها جيلاً بعد جيل، والتي أوجدت من خلالها ومنتجيها أسواقاً متنوعة في مختلف المحافظات تعرض فيها صناعات الفضيات والنحاسيات والعقيق والجنابي والفخار وحياكة النسيج والبخور والطيب واللبان وصناعة الملابس (المعاوز) وكوافي الخيزران وصناعة المنسوجات النباتية، وغير ذلك من الصناعات الحرفية التي خطت وأبدعت فيها أنامل الحرفيين اليمنيين. صعوبات مختلفة هناك رزمة من الصعوبات تواجه هذه الحرف، فهي تشكو اليوم من كسادها وعدم تطورها، كما أن النقص المتنامي في الأيدي الحرفية الماهرة، بسبب وفاة العديد من كبار السن والرواد، أفقدها جزءاً من بريقها أمام التطور التكنولوجي، الذي أثر سلباً على كثير من الصناعات التقليدية والعادات والتقاليد المرتبطة بها، فهجر عدد من الحرفيين حرفتهم سعياً وراء مهن أو حرف، تحقق لهم دخلاً أفضل، كما أن قلة وعي المجتمع المحلي بالأهمية الاقتصادية للصناعات التقليدية وسعيهم وراء السلع المستوردة، التي تمتاز بالجودة والسعر الرخيص، وتحاكي نمط الحياة العصرية، التي دجنها المناخ الثقافي السائد والآلة الإعلامية كقوة ضاربة، تحكمت في اتجاهات إنسان اليوم وسيلة ورسالة وتأثيراً. فتأثر المتلقي بنمط الاستهلاك الغربي، الذي تغلغل بعمق في الريف والحضر ترك آثاراً سلبية على المكون العام للنسيج الاجتماعي، وعلى حساب المكون الحضاري المتضمن تراث الصناعات التقليدية. وأمام هذا كله تؤكد دراسة ميدانية أجرتها الهيئة العامة للآثار بالتعاون مع الصندوق الاجتماعي للتنمية، في إطار برنامج الحفاظ على التراث الثقافي اليمني اندثار نحو 35 % من الحرف اليدوية والصناعات التقليدية التي عرفتها مدينة صنعاء حتى منتصف أربعينيات القرن الماضي. وأشارت الدراسة أنه لم يبقَ حتى الآن سوى 28 % من سكان مدينة صنعاء القديمة يزاولون حرفهم رغم ضغط المنتجات المستوردة المنافسة التي باتت تهدد مصدر دخل معظم الحرفيين، وهو ما يهدد بزوال ما تبقى من هذه الحرف. وبصفة عامة ومن خلال سعينا في هذا الموضوع للحصول على معلومات ومؤشرات وأرقام عن واقع الصناعات التقليدية المباشرة منها وغير المباشرة لم نتمكن من الحصول على القدر الكافي، نظراً لعدم وجود قاعدة معلومات كاملة عن منتجات الصناعات التقليدية وافتقار هذه الصناعات إلى الخدمات الاستشارية والخبرات الفنية والإدارية، وإلى جانب نقص التشريعات والقوانين المتعلقة بها، وعدم وجود استراتيجية واضحة داعمة على مستوى الحكومة لهذه الصناعات مما أفرز فجوة في المعلومات لدى الجهات القائمة على التنمية الصناعية والجهات الأخرى ذات العلاقة عما يحتاجه قطاع الصناعات التقليدية، من تطوير للبنية التنظيمية وعكسها في شكل سياسات عامة على المستوى الوطني، تسهم في صنع المناخ الملائم لنمو وتطور هذه الصناعات والاستفادة منها. الإجراءات المتخذة لم ينل هذا الجانب الاهتمام الكافي للنهوض به نتيجة لعدد من الظروف الموضوعية، أهمها ضآلة الموارد المالية وأولويات أخرى، طغت على كثير من الجوانب، فظلت احتياجات النهوض بقطاع الصناعات التقليدية قائمة إلا انه في المقابل أنشئت عدد من المراكز، ومنها مركز الأسر المنتجة الذي يتبع وزارة الشئون الاجتماعية والعمل وفروعها في المحافظات، ويعتبر أحد المراكز الداعمة للمبادرات الفردية وبيئة حاضنة للصناعات الحرفية التي تختص بها المرأة إلى جانب المركز الوطني للحرف اليدوية، الذي يجمع عدداً من الحرفيين المنتجين للصناعات التقليدية، ويقام فيه عدد من الدورات في الجوانب الحرفية والمهنية، إضافة إلى تنظيم وإقامة عدد من المعارض الدولية التي تشارك فيها بلادنا وتميزت بالتعبيرية الحضارية، واستهدفت تعريف شعوب العالم بما تحوزه اليمن من تراث حضاري، كما تستهدف دعم قطاع الصناعات التقليدية عن طريق توفير سوق عالمية واسعة لمنتجاتها، وتساهم بدور إيجابي في التنمية السياحية في إطار ما يعرف بالسياحة الثقافية. وفي ظل محدودية الدعم المقدم لقطاع الصناعات التقليدية توجد عدد من الجهات الخاصة والجهات المعينة، تنوب عن الدعم الحكومي، منها الصندوق الاجتماعي للتنمية ومؤسسة حماية الآثار والتراث الثقافي والمعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية والمعهد الألماني. ومع بداية مطلع العام 2010م وافقت الحكومة حينها على قرار يقضي بحماية المنتج الحرفي والمشغولات اليدوية التقليدية ودعم الحرفيين. ونص القرار على حظر استيراد المنتجات الحرفية المقلدة وإعادة تصديرها أو إتلافها في حال وصلت إلى الموانئ إلى جانب فرض رسوم إضافية نسبتها 25 % من القيمة على الواردات من المنتجات الحرفية، ومنها الأقفال التقليدية والخشبية والسيوف التقليدية وأغمدتها والأحزمة الجلدية وغيرها. ما يجب أن يكون نظراً لما يمثله هذا القطاع من أهمية من خلال ما ذكر آنفاً فإن على المعنيين في الجهات المختلفة، ومنها وزارة الصناعة والتجارة ووزارتي السياحة والثقافة ووزارة الشئون الاجتماعية والعمل والمجالس المحلية في المحافظات وضع الاستراتيجيات والخطط الحالية أو المستقبلية موضع التنفيذ على أرض الواقع خطوة بخطوة، لتحقيق نتائج إيجابية وصولاً إلى الأهداف المسطرة . تتضمن بحسب ما يرى المهتمون بهذا الشأن تحسين أحوال العاملين في قطاع الصناعات الحرفية، مع ضرورة تفعيل القرارات والقوانين الهادفة إلى حماية المنتج الحرفي والمشغولات اليدوية التقليدية، وتحويل الإنتاج الحرفي وخاصة منه التقليدي من مورد داعم للموازنة الاستهلاكية للعائلة إلى فرصة للنمو والاستثمار والاستدامة، وذلك من خلال دعم إقامة الورش وتبسيط إجراءات التراخيص وتكاليفها وتقديم قروض ميسرة للحرفيين، وإقامة معاهد ومراكز متخصصة للراغبين في تعلم المهن والحرف اليدوية التراثية، واستحداث آلية تسويق، تعتمد مفاهيم حديثة تلبي متطلبات السوق والزبائن المستهدفين، والاهتمام بالتوثيق المعلوماتي لكافة أنواع وأدوات المنتجات الحرفية بما يؤسس لإقامة مركز معلومات يتضمن البيانات الخاصة بشتى أنواع الحرف اليدوية. والعمل على دعم الخامات المستوردة، والتي تدخل في بعض الصناعات التقليدية، مع تبني القيام بدراسات تستهدف رصد وتقييم للصناعات التقليدية المتواجدة في عموم المحافظات، وتنشيط الدور التنموي للسياحة باعتبارها تلعب دوراً أساسياً في قطاع الصناعة التقليدية، الذي يزداد ارتباطه بالسياحة في إطار ما يعرف بالسياحة الثقافية، من خلال القيام بإصدار كتيبات ونشرات سياحية حديثة عن الصناعات الحرفية التي تتميز بها كل محافظة وتوزع على الجهات والأماكن، التي تخدم هذا القطاع وتشجيع إقامة المعارض الداخلية بالتنسيق مع السلطات المحلية ومنظمات المجتمع المدني والجهات الداعمة والإعداد النوعي لما يخص المشاركة في المعارض الخارجية والدولية، التي تشارك فيها بلادنا لتعريف شعوب العالم ما تحوزه اليمن من تراث حضاري إلى جانب اتخاذ ما يلزم من الإجراءات القانونية لحماية الملكية الذاتية للحرفيين التي تشمل المنتجات و التصاميم وغيرها. كل ذلك مع تفعيل دور وسائل الإعلام بكافة أشكالها للتعريف بأهمية القطاع الصناعي التقليدي من عدة جوانب، تتضمن أهميتها الحضارية ومكوناتها الثقافية ودورها التنموي وتوعية المجتمع بضرورة التفاعل الإيجابي تجاهها. وتظل الحقيقة القائمة بأن المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمستهلك يلعب دوراً كبيراً في تحديد اقتناء هذه الصناعة الحرفية،- أو تلك وفقاً لاعتبارات الذوق والدخل والعادات الاستهلاكية.