الماء والتراب.. السماء الأرض.. البيت والقبيلة.. الدين والدولة.. هذه هي مذيخرة وهذه هي أبوابها الثمانية التي يمكن للواحد أن يدخل من أحدها أو يلج منها جميعاً.. المهم أن يكون حذراً أو مستعداً لمثل هكذا لقاء فمذيخرة لا تمنح نفسها إلا لمن يفهمها ويحل أحجيتها ويفك طلسم أيامها المتعددة الوجوه والاحتمالات..مع أول قطرة ماء بدأت حكاية مذيخرة مع أول قطرة ماء ونمت وتوسعت مع تعدد القطرات واندفاعها بغزارة مشكلة بيئة بديعة وخلاقة مفعمة بالحيوية والنماء ومسكونة بالروعة والاخضرار بالماء كل شيء يحيا وبدونه كل شيء يموت هكذا ينطق واقع الحال في مديرية مذيخرة التي تستحيل فيها منابع الماء منابع للحياة ومجاريه ممرات للأنفاس المبشرة بالأيام التي لم تأت بعد والتي ستأتي حتماً رية وندية ومثمرة وزكية ونظرة وعطرة تماماً كما هو الحال في مواسم الخير والحصاد التي تحكي قصة الحياة واستمرارها وتواصل عطائها على نحو يجذب الانتباه ويشد الذهن لتلك العلاقة الرائعة بين قطرات الأمطار وحبات عرق الإنسان وذلك التفاعل المدهش الذي ينتج في النهاية سنابل مثقلة وثمارنا ناضجة هي خلاصة الخلاصة في رحلة أولها الحب وآخرها العطاء. الجمال مر من هنا التلال.. المنحنيات.. الوديان.. الجبال.. الطرق.. الممرات .. القرى المتناثرة هنا وهناك كلها واجهات ولافتات تنبئك أن الجمال مر من هنا فترك كل ماهو جميل وان التاريخ مر من هنا فترك كل ما هو جليل.. كأن لكل زاوية حكاية ولكل منعرج حديث غير ان جمال الطبيعة هنا أكثر ما يلاحظه المرء وهو يسبر أغوار المكان ويتفرس في ملامحه.. إنه شعور رائع ذلك الذي يغشاك وأنت تعانق التلال والوديان بعينين تجدان السير وتسابقان الطير بحثاً عن الكنز المدفون والمعنى المكنون الذي تنفرد به مذيخرة دون سواها وتتميز به على ما عداها.. وشيئاً فشيئاً تتجمع أجزاء مذيخرة المتناثرة كقطع البلور فتبدو على حقيقتها أميرة فائقة الجمال رشيقة القد خفيفة الظل عطوفة رؤوفة رقيقة ظريفة تعشق الزهور والطيور لأنها تبعث فيها السرور وتذكرها بالبنات الحور وتارة الدور والقصور لأنها أشبه بالقبور وليس فيها غير الدسائس والثبور وعظائم الأمور إنها مخلوقة لطيفة أكثر منها أميرة أو وصيفة أو شيخة أو شريفة.. كل ما تطلبه ان تكون على حقيقتها وليس على مراد أحد آخر. زحمة! 14عزلة وسكانها كل ذلك يجعل مذيخرة أكبر مديريات محافظة إب غير أن ثمة شيئاً آخر يجعلها ذا خصوصية.. إنه ذلك الحضور اللافت للأسر والعائلات التي طبعت المنطقة بطابعها وجعلتها تدور في فلكها وكأنها معالم غير قابلة للزوال وما بين السيد والشيخ تبقى مذيخرة كأمها اليمن هي الحاضرة الغائبة في زحمة الأعراق والأنساب والقبائل والأحزاب.. إنها توليفة تعكس المعادلة السكانية لليمن ولليمنيين ككل بحيث لا تعطي الحق لأحد في أي زعامة أو سيادة من نوع ما.. أن تكون سيداً لا يعني أن يكون غيرك عبداً وأن تكون شيخاً لا يعني أن يكون غيرك خادماً.. هذا ما يجب أن يعيه الجميع وهم يعيدون صياغة حياتهم على عقد اجتماعي جديد يتجاوز موروثات الماضي وعلاقاته ويؤسس لحاضر مختلف يقوم على أساس الدين الجامع القائم على التوحيد والعبودية المشتركة لله.. والوطن الواحد القائم على الوحدة والمواطنة المتساوية. كانت هنا دولة كانت مذيخرة عاصمة وحاضرة لدولة حكمت معظم مناطق اليمن ومع ذلك لم يبق من آثارها إلا النزر اليسير .. لا يوجد تفسير واضح لما حدث سوى اعتقاد البعض ان السمعة السيئة التي لحقت بالقرامطة والحكايات والقصص التي نسجت حولهم كانت السبب الرئيسي وراء الرغبة الجامحة في طي صفحة القرامطة ومحو آثار دولتهم وكل ما يمت بصلة لهم ول علي بن الفضل مؤسس الدولة وبانيها فمن هم القرامطة ؟ ومن هو علي بن الفضل؟ نسبة للدولة القرمطية؟ بحسب بعض المصادر فإن القرامطة سموا بهذا الاسم نسبة للدولة القرمطية التي انشقت عن الدولة الفاطمية وقامت إثر ثورة اجتماعية يعدها البعض من أوائل الثورات الاشتراكية في العالم.. وتضيف هذه المصادر ما نصه : إنه بعد وفاة الإمام جعفر الصادق الإمام السادس للشيعة حدث انشقاق في الصف الشيعي فهناك من اعتبر إسماعيل بن جعفر هو الإمام وعرفوا فيما بعد بالإسماعيلية وهناك من اعتبر موسى بن جعفر الإمام السابع وهم يمثلون الأغلبية الساحقة للشيعة اليوم ويسمون بالاثني عشرية لتمييزهم على الإسماعيلية، وقد بايع الإسماعيليون محمد بن إسماعيل إماماً لهم ونتيجة لملاحقة الدولة العباسية له أخطر، واختفى لتبدأ حملة سرية وواسعة لنشر العقيدة الإسماعيلية، وكانت الدعوة تجري باسم محمد بن إسماعيل الغائب والذي قيل إنه هو المهدي المنتظر وعند عودته سيملأ الأرض عدلاً.. وفي 873م وحين كانت الدولة العباسية قد بدأت بالتفكك والضعف ظهرت أعداد كبيرة من الدعاة في اليمنوالعراق وشرقي شبه الجزيرة العربية وأجزاء من بلاد فارس ينشرون المذهب الإسماعيلي.. مما أثار غضب الدولة العباسية وحسد الشيعة الاثني عشرية لهذا الانتشار المفاجئ.. وكانت الدعوة الإسماعيلية في العراق تقاد من قبل حمدان قرمط الذي تمكن من تحقيق نجاح كبير واجتذاب الكثير للدعوة الإسماعيلية.. أما عن نهاية الدولة بعد ذلك فتؤكد المصادر أنه وفي عام 931م سلم أب طاهر الجنابي وهو قائد القرامطة في البحرين زمام الدولة إلى شاب فارسي كان قد رأى فيه المهدي المنتظر، فيما لم يكن ذلك الشاب غير دجال خدع أبا طاهر وغيره، ثم ما لبث أن أقدم على إعدام بعض أعيان دولة البحرين حتى وصل إلى حد سب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء، وهو ما أثر سلباً على الدولة القرمطية وعلى رجالاتها ودعاتها، وهز سمعتهم في المجتمع الإسلامي مما أضطر أبو طاهر إلى الاعتراف بأنه قد خدع من قبل هذا الشاب حيث أمر بعد ذلك بقتله إلا أن الأمر كان قد خرج على السيطرة وسمعة القرامطة كانت قد وصلت إلى الحضيض. نبوة أبن الفضل أما فيما يخص علي بن الفضل فقد جاء في موسوعة الأعلام بأن علي بن الفضل هو أبو سبأ الجدني الخنفري الجيشاني عاش وتوفي في بلاد مذيخرة في محافظة إب وهو مؤسس الدعوة القرمطية في اليمن، كان في أول عمره ينتحل عقيدة الشيعة الاثني عشرية مغالياً في التشيع، وكان خاملاً لا عمل له ولا شهرة، إلا أنه كان أديباً لبيباً ذكياً جريئاً.. وتؤكد المصادر أنه وخلال ذهابه للحج وارتحاله للكوفة لقي أحد دعاة الإسماعيلية فاستماله مع رفيقه منصور بن حوشب للقيام بنشر الدعوة الإسماعيلية في اليمن فأقام في منطقة يافع معتزلاً الناس في أحد الجبال وظاهر بمظهر العبد الصالح حتى اقتنع الناس به وبايعوه فبدأ بالاستيلاء على الحصون والقلاع حتى دخل مدن صنعاء وزبيد وغيرها وادعى النبوة. التخلص من ابن الفضل وبحسب ذات المصادر فقد جعل علي بن الفضل عاصمة حكمه مدينة المذيخرة بعد أن قتل سلطانها فانتشر مذهب القرامطة الباطنيين في اليمن انتشاراً كبيراً، وكان الناس يدخلون فيه خوفاً من علي بن الفضل وبطشه، وكان ممن رفض الاستسلام ل علي بن الفضل أسعد بن يعفر الحوالي أمير صنعاء وحين قدم إلى صنعاء طبيب من أهل بغداد أخبر الحوالي أنه بإمكانه أن يقتل علي بن الفضل، وكان طبيباً مشهوراً بعمليات الفصد والحجامة فأسر ذلك الأمير اسعد الحوالي وقام بتجهيز هذا الطبيب للقيام بهذه المهمة الصعبة والخطيرة.. وبالفعل وصل الطبيب إلى مدينة مذيخرة وأقام فيها زمناً يعالج الناس حتى ذاع صيته فطلبه علي بن الفضل ليجري له عملية فصد لدم في ظهره وكان الطبيب يدرك تماماً أن الشخص الذي يدخل إلى علي بن الفضل يفتش بشكل دقيق، فلجأ إلى حيلة ذكية حيث قام برش السم على لحيته ولما دخل على علي بن الفضل غسل يديه ثم مسح المبرد على لحيته بقصد تجفيفه من الماء ثم شق به ظهر علي بن الفضل لإخراج الدم الفاسد، ثم انصرف فشعر علي بن الفضل بأثر السم يجري في دمه فأمر حراسه بمطاردة الطبيب فلحقوه في وادي السحول فقاتلهم حتى قتل، وهكذا مات علي بن الفضل بعد ثلاثة أيام وقد تقرح جسمه وبعد أن دام حكمه “19” عاماً. منطقة سياحية جدير بنا أن نشير أن مذيخرة منطقة أثرية ولها تاريخ عريق وبها شلالات طبيعية وتنتج العديد من المحاصيل الزراعية الهامة وأصناف الخضار والفاكهة، كما تمتاز بالعديد من الأسواق ويوجد فيها بقايا قلاع وحصون أثرية وبعض المباني المعروفة بالدور التي تعود لعائلات وأسر شهيرة.. ومن أهم مساجدها القديمة مسجد إسماعيل الذي قام ببنائه علي بن الفضل ويمتاز بتشكيلات ولمسات هندسية جميلة ومتناسقة ويحوي بداخله زخارف وآيات قرآنية منقوشة على الجدران.. هذا إلى جانب مسجد آخر يسمى مسجد قلامه إحدى مناطق مديرية مذيخرة التي كانت على ما يبدو تعيش حالة من التعايش الديني والأدل على ذلك من وجود أحد دور العبادة التابعة لليهود الذي كانوا يترددون لأداء شعائرهم وعقائدهم الدينية.. المنطقة إذاً سياحية بامتياز لكنها بحسب أمين محمد الراعي “أحد أبناء مذيخرة” لا تجد الرعاية والاهتمام المطلوبين بها كمنطقة سياحية ثرية بمعالمها التاريخية وغنية بعناصرها الطبيعية الجاذبة للسياحة التي كانت تدفع الناس قديماً للوصول إليها من مناطق عديدة مشياً على الإقدام أو على ظهور الحمير والبغال وذلك للتمتع بنسيمها العليل ومناظرها الخلابة واستلهام واستنطاق عبق الماضي الجميل المنعم بالأحداث والقصص والحكايات. منتهى القول آخر ما يقال عن مذيخرة إنها استطاعت أن تقطع أشواطاً في مجال الخدمات والبنى التحتية أكثر من غيرها لكنها لا تزال بحاجة إلى ما هو أكثر.. وأبعد من هذا أن تعي أنها مثلما هي صاحبة حاضر مزدهر فهي صاحبة ماض عريق يحتاج التعامل معه إلى فهم الظروف المحيطة أكثر من كيل الشتائم واللعنات.