حينما تبلغ جوارحنا مرحلة العصيان في التفاعل مع كل هذا الضجيج الذي تجبرنا لقمة العيش أن نكون جزءاً منه، يكون علينا أن نبدأ في التفكير الجدي في الترتيب لأخذ قسط من الموسيقى في ذلك المدى المؤثث بمواويل الغائبين على شاطئ الخوخة، المكان الذي اختارته الشمس وهي تغادر كل يوم مستودع القبلات، ومتكأ للبوح في كل ذلك الامتداد الساحلي المنسي –الوعرة – أبو زهر- القطابة.. يكون علينا أن نحرم أشواقنا ونغادر باكراً نسابق شعاع الفجر حتى نصل سويا إلى الخوخة، ونبدأ أول شعيرة الهروب، وهي استقبال الصباح الخوخي ومتابعة موكب الأضواء القادمة من وسط الأمواج في صنابيق صغيرة تحمل ما جاء الله من رزق، بعد ساعات تمتد من بدايات الليل وحتى الفجر. وجوه سمراء أكل من تقاسمها الكد والتعب، تنزل من القوارب وتتجه نحو الساحل، تعرض بضاعتها في حراج الأسماك المتهالك في سوق الخوخة ويابخت من جاد له البحر بسمك «ديرك». جولة صباحية بعد ان نغادر ذلك الحراج الصغير المتهالك ونكون قد اشترينا ما طاب لنا من الأسماك الطازجة، نتجه إلى أقرب مطعم شعبي لشوي السمك والانتظار ريثما ينضج، وننطلق صوب الساحل من وسط تلك النخيل المتزاحمة في أبو زهر حتى نصل مشياً على الأقدام تسابقنا خطواتنا إلى زاويا النخيل الواقفة منذ ان شاء الله، لها تؤدي يومياً مراسيم الوداع وقت الغروب للشمس، وتستقبل أيضاً رسائل الغائبين عنا خلف البحار، تترجمه كل صباح إلى أغان فيروزية الشجن، وبكل تأكيد لن يكون ملئ أمعاءنا بالسمك الطازج قبل ملء جوارحنا بمصافحة البحر، فيكون علينا ان نغسل أدران الضجيج، ونبدأ حصة صباحية رائعة بالسباحة وليست السباحة عند الجبالية القادمين من أعالي الجبال إلا بالبلدي (طرفاش بالماء)لا غير، لكن البقاء في الماء والاسترخاء علي الشاطئ واطلاق الأنظار نحو امتداد البحر ومراقبة سرايا الأمواج حتى انتهاء هديرها على حافة أقدامنا شيء رائع، يكون علينا بعد أن بدأت استغاثات أمعائنا تتعالى في حوالي الساعة التاسعة صباحاً، ونكون قد أكملنا حصة كاملة من الأشواق والضحك تبدأ من الساعة السادسة والنصف وتنتهي في التاسعة. تناول وجبه الفطور .. قمة في المتعة على الشاطئ ولأنها رحلة عائلية فكل أدوات الرحلة مجهزة حسب التعليمات، ليس هناك ما ينغص عليك متعة الجلسة – يد تأكل بها ويد تهش به الغربان الحقيرة التي تحوم فوق رؤوسنا لتخطف قطعة رغيف أو قطعة سمك – وكم يكون الأمر مضحكاً عندما يلتقط غراب قطعة خبز من أمام طفلك لم أشاهد من قبل مضايقة حقيرة مثل تلك (لكن الجوع كافر) كما يقال. بالطبع يتحول المشهد إلى موقف كوميدي مضحك وأنت في غمرة الضحك ان لا تغفل، ويتكرر المشهد وتكون أنت المستهدف الثاني. قبل انتهاء الفطور نلتفت على نداءات دليلنا الرائع سلمان الخوخي، نحزم أشياءنا ونغادر عبر النخيل، فوج سياحي تعزي لم يعد مألوفاً لأصحاب الخوخة بعد ان هجرها السياح بفعل الإرهاب. أثناء مرورنا من بين أزقة البيوت حتى وصلنا إلى مقر إقامتنا نسجل صور شتي من طقوس الحياة للإنسان الخوخي، ذاك محمل خلفه في موتوره كيس يتوقف أمام منزله يهرع له أطفاله الثلاثة وبلكنة تهامية خالصة يسألونه ويؤشر لهم على الكيس الصغير و بضحكات طفولية مرتبكة يأخذونه و يدلفون إلى البيت، وهناك عجوز على كرسي خشبي أمام حانوت صغير أحرق ملامحه زمهرير الصيف، كل انكسار العالم تقرأه في عيونه، يقف بانحناء يؤشر إلى حفيده أن يبعد من أمام باب الحانوت، الأطفال وحتى نصل مقر إقامتنا تكون عيوننا قد دونت عشرات الصور الإنسانية المنكسرة أحياناً، والصور السياحية الرائعة أحياناً أخرى. مشروع تأمل لا شك ان أجمل الأوقات في الخوخة هي بداية توقيت الغروب من العصر، وحتى المغرب ليس ان ترتب الكرسي الخشبي على حافة الشاطئ أو تحت النخيل المحاذية للشاطئ، وتبدأ في المقيل منسجماً مع روحك في مشروع تأمل غاية في الكتمان، تعيش ساعات ترمم جوارحك ما استطعت من الصفا. أيضاً يكون عليك أن تغادر متكئا وتبدأ في جولة سريعة عبر الطريق الرملي نحو امتداد الزرع في القطابة، تستمتع بطقوس استعدادات الناس هناك في امتداد (زهوب الزراعة المختلفة). ضجة رائعة من أصوات النسوة والرجال في الحقول - كل يستعد- على انتهاء طقسه اليومي في الحقول ذاك يجمع مواشيه وتلك تنهي حزم آخر ربطة من (العجور). وهذا ما يقودني إلى عمل فيلم توثيقي تسجيلي من وحي هذا الواقع البعيد جداً عن عالمنا المليء بالمكارحة والحشوش والمشاكسة والملل.. مساء يعج بالحياة وأصوات المداعة من أجل ترتيب وجبة العشاء في نهاية نهار كامل في الخوخة ذهبنا إلى سوق الخوخة لم أجد شيئاً تغير من حركة الناس والباعة السوق يعج بالحركة والموتورات، شارع ضيق غير مرصوف هو هو لم يتغير فيه شيء منذ التسعينيات، غير مكتب البريد ومسجد في نهاية السوق، وهذا هو انطباع كل من عرف الخوخة من قبل لم يتغير فيها شيء، ولم تجد لها نصيب ميزانية الحكومة كي يظهر فيها تغير وتطور حقيقي سوى الخط الساحلي الذي يمر من بدايتها وحتى المخا، هذا ما تلاحظه من تغير. حديث الخوخي وكثير المرارة الخوخة هي هي بقرية جمعان السياحية، وقرية المخا الساحلية السياحية، التي أغلقت أبوابها لأسباب تتعلق بدعم تدفق السياح مثلما كان من قبل، لم تعد هذه المدينة مثلما كانت مركز كبير وسوق كبير لتدفق بيع الأسماك، وهذا يعود إلى تراجع نسبة القادمين إليها كما كانت، ولذلك كما يقول احدهم ان مركز تسويق الأسماك بشكل كبير هو الحديدة أو المخا، ونصيب الخوخة ليس كبيراً نتيجة لضعف القيمة الشرائية. ما يأتي للخوخة من الأسماك هو فقط من الصنابيق الصغيرة، أما الصيادون الكبار من أصحاب الهواري الكبيرة، مركز تسويق أسماكهم الحديدة أو عدن أو المخا تفاصيل الحديث مع مثل هؤلاء فيه الكثير من المرارة والنكد، فكثير من أبناء الخوخة الصيادين محتجزون في أرتيريا تركوا وراءهم أسراً قمة في الوجع والانكسار، وأتمنى أن يسلط الإعلام المرئي الضوء أكثر على معاناة أبناء الخوخة الصيادين المحتجزين في أرتيريا، وأبناء المناطق الأخرى من تهامة، مأس وقصص محزنة قد يكلف تجهيز قارب أو هواري كبير لعشرة صيادين من مؤن وبترول لمدة شهر أو شهرين من الاصطياد في البحر مليون ريال، بالإضافة إلى قيمة هذه القوارب الغالية الثمن التي تصل إلى ثلاثة ملايين ريال !!. كل ذلك يتم مصادرته من قبل السلطات الإرتيرية وفوق ذلك يتم احتجازهم في السجون في حالات إنسانية غاية في المعاناة، وهي الخوخة المدينة المنسية تماماً عن كل الجهات الخدمية والسياحية في بلادنا، كهرباء من 12ساعة طافئة، تدهور فضيع في الجانب الصحي والتعليمي والخدمي عموماً. لماذا مكتوب عليها ان تظل بهذا الوضع؟ ولماذا لا تفكر وزارة السياحة في الترويج للاستثمار السياحي في هذه المدينة؟ وقبل ذلك التسريع في وضع خطة تنموية تجعل الخوخة تخطو للأمام وتتجاوز مشاكلها ؟!. كوز بارد وخيتة ومقعادة في الخوخة ليل عامر بأصوات المداعة مثلها مثل المدن الساحلية، تجد ان جلسة المقيل الحقيقة تبدأ من المغرب وتنتهي الساعة الحادية عشرة «كوز بارد وخيتة ومقعادة» ثلاثي المقيل أو مقومات المقيل عند الخوخي بسطاء وطيبون هم جداً.. سلمان الخوخي حكايات البحر بعد أن يرش سلمان الخوخي الأرض بالماء ويرص امقعايد، بدأت مع رفقائي في رحلة «للبحر نحزم الأشواق» المقيل من جديد حسب التوقيت الخوخي الساعة السابعة ليلاً، وباستمرار يضطر سلمان الخوخي ان يوقف جوار المداعة كي يجاوبني على سؤال يسرد لي البداية، تفاصيل رحلة الصيد التي تمتد شهوراً، ويصل فيها الصياد الخوخي إلى المياه الإقليمية الصومالية بحثاً عن رزق بعد أن حولت الجرافات الكبيرة لشركات أجنبية، في ظل سكوت مدفوع الثمن لقادة في السابق، إلى بيئة لم يعد فيها حتى شعب مرجانية يعني اصطياد عشوائي جائر. تختزل ذاكرته بالكثير من تاريخ الخوخة وحكايات البحر، وبكل تأكيد حين تعيش وتكون جزءاً من تفاصيل الحياة في أي بقعة في تهامة على امتداد مناطقها المختلفة من حرض وحتى المخا محافظة تعز تجزم أن من يقصد من أهل اليمن بقول حبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم (أرق قلوبا وألين أفئدة) هم أصحاب تهامة ..! حياتهم قمة في البساطة والطيبة، وبكل تأكيد أيضاً، حين تقضي أياماً في رحلة عائلية أو شبابية إلى الخوخة تجد نفسك خارج تغطية الهم والضجيج، في دورة مفتوحة للتأمل، تعرف تماماً وتلامس قاعدة لسعادة في الحياة، يمارسها الخوخي والتهامي، هو أنه يعيش في حدود يومه. غادرنا الخوخة في رحلة (للبحر محزم الأشواق) واحد وحين ينهكنا الضجيج بعد ما شاء الله، سيكون علينا ان نحزم أشواقنا في رحلة عائلة ثانية إلى بقعة أخرى على شريطنا الساحلي الكبير من ميدي وحتي المهرة. [email protected]