بالرغم من كل ما تعانيه من إهمال خاصة في هذه الفترة إلا أنها تبقى دائماً مدينة السحر والجمال والتاريخ والحضارة، نعم مدينة تسحر قلب كل من يزورها وتجبره على زيارتها مرة ثانية وثالثة وعاشرة، كيف لا وهي مدينة سام بن نوح التي تشتهر بتاريخها العريق وفن عمارتها وشوارعها الضيقة ومبانيها القديمة المتلاصقة، والتي تحكي التاريخ الاجتماعي لسكان مدينة صنعاء، كما تتميز بكثرة مساجدها والتي تقدر بأكثر من خمسين مسجداً تاريخياً بنيت في الفترات المختلفة من العصر الإسلامي، ويرجع تاريخ بناء بعضها إلى القرون الهجرية الأولى، ويأتي في مقدمة هذه المساجد الجامع الكبير بصنعاء؛ الذي يعتبر ثالث مسجد بُني في الإسلام بعد مسجد قباء ومسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المدينةالمنورة. حيث يشهد الجامع هذه الأيام والليالي المباركة في خواتم شهر رمضان المبارك ازدحاماً بالمصلين الذين تراهم ركّعاً وسجّداً أو في قراءة للقرآن الكريم أو في حلقات لدروس الفقه والحديث وما إلى ذلك.. يعتبر الجامع الكبير بصنعاء من أقدم المساجد الإسلامية، فهو أول مسجد بُني في اليمن، ويعتبر من المساجد العتيقة التي بنيت في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أجمعت المصادر التاريخية على أنه بني في السنة السادسة للهجرة، حين بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصحابي وبر بن يحنس الأنصاري والياً على صنعاء. ويضيف القاضي العلامة عبدالرزاق الرقيحي - عضو مجلس النواب، وعضو مجلس أمناء مشروع ترميم وصيانة الجامع الكبير بصنعاء - قائلاً: إن النبي الكريم لم يكتف بأمر البناء فحسب وإنما حدد موقعه ما بين الصخرة الململمة وقصر غمدان، كما حدد قبلته عن يمين جبل ضين الذي يبعد عن شمال صنعاء بثلاثين كيلومتراً. وكان أول بنائه متواضعاً يتماشى مع عمارة المساجد الأولى في ذلك الوقت؛ حيث كان شكل الجامع بداية مربعاً طول ضلعه (12) متراً، له باب واحد من الناحية الجنوبية وبه (12) عموداً أشهرها «المنقورة» وهو العمود السادس من ناحية الجوار الشرقي الحالي، و«المسمورة» وهو العمود التاسع من ناحية الجوار الشرقي - أيضاً - ومقسم من الداخل إلى ثلاثة أروقة، وكان يوجد بالرواق الشمالي المحراب الأصلي، وقد بني الجامع على أنقاض قصر غمدان، كما ترجع أبواب الجامع الفولاذية لقصر غمدان وعليها كتابة بخط المسند مازالت موجودة حتى اليوم. ويضيف القاضي الرقيحي بأن الجامع الكبير قد شهد خلال العصور الإسلامية المتتابعة تجديدات وتوسيعات عديدة، وكان من أوائل هذه التوسعات تلك التي قام بها الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك «86 - 96ه» - «705 - 715م» في ولاية أيوب بن يحيى الثقفي، حيث شمل التوسع في الاتجاه الشمالي من ناحية القبلة الأولى إلى موضع القبلة الحالية، وفي فترة أول والي لبني العباس في صنعاء الأمير عمر بن عبدالمجيد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب، نقلت أحجار أبواب الجامع من قصر غمدان ومنها المدخل الذي يقع على يمين المحراب وبه صفائح من الفولاذ متقنة الصنع من ضمنها لوحان مكتوبان بخط المسند.. وفي عام 136ه - 754م أجري توسيع على يد الأمير علي بن الربيع بأمر من الخليفة المهدي العباسي، وفقاً للوحة المكتوبة في صحن المسجد، ثم التوسعة الآتية التي قام بها الأمير محمد بن يعفر الحميري، والذي عمل على توسيع الجامع في عام 265ه وكان من ضمن التوسعة السقوف الخشبية المصنوعة من خشب الساج، خاصة في عمارة الرواق الشرقي. وفي عام 1012ه قام الوالي العثماني سنان باشا ببناء صوح أو صرح الجامع، أما الإمام يحيى بن محمد بن حميد الدين فقد قام ببناء المكتبة التي تقع غرب المنارة الشرقية، وكذلك السقف الأوسط في الجناحين.. كما حفر البئر الغربية للجامع وأصلح سواقيها إلى المطاهير عام 1374ه. والجامع بشكله الحالي هو مستطيل الشكل أبعاده 68م×65 م، يتكون من فناء مكشوف تحيط به أربعة أروقة أعمقها وأكبرها رواق القبلة. يتم الدخول إلى هذه الأروقة من خلال اثني عشر باباً: - ثلاثة أبواب: تفتح في الواجهة الشمالية للجامع وتؤدي إلى داخل رواق القبلة. - خمسة أبواب تفتح في الواجهة الشرقية للجامع وتؤدي إلى داخل الرواق الشرقي. - ومدخل يفتح في الواجهة الجنوبية للجامع ويؤدي إلى داخل الرواق الجنوبي. - وثلاثة مداخل تفتح في الواجهة الغربية للجامع وتؤدي إلى داخل الرواق الغربي. وصرح الجامع حالياً مربع الشكل تقريباً «38.70×38.30م» بلطت أرضيته بقطع من حجر الحبش، وتطل عليه واجهات الأروقة الأربعة. يتوسط هذا الصرح بناء مربع الشكل تم استحداثه في فترة الوجود العثماني باليمن من قبل سنان باشا؛ وذلك لحفظ عدد من مصاحف ومخطوطات الجامع.. رواق القبلة «61 × 18.50م»: يتكون رواق القبلة من خمسة صفوف من الأعمدة والدعامات الموازية لجدار القبلة، في كل صف 15 عموداً ودعامة تحمل عقوداً بعضها نصف دائرية الشكل والبعض الآخر مدببة تدبيباً خفيفاً.. تحمل هذه العقود سقف الرواق، الذي يتكون من مصندقات خشبية نفذت عليها أنواع مختلفة من العناصر الزخرفية الملونة. يتوسط المحراب - «عرضه 1م وعمقه 70سم» - الجدار الشمالي لهذا الرواق ويزخر تجويف المحراب والمنطقة المحيطة به بزخارف كتابية وهندسية ونباتية ملونة. الرواق الشرقي «أبعاده 41.50 × 11م» والرواق الغربي «أبعاده 39.75 × 11م»: يتكون كل واحد من هذين الرواقين من ثلاث بائكات، في كل بائكة تسعة من الأعمدة والدعامات التي تحمل عقوداً نصف دائرية تحمل السقف. يوجد في الجزء الجنوبي من الرواق الغربي محراب، كما يوجد ضريح يعرف بضريح حنظلة بن صفوان. الرواق الجنوبي «أبعاده 60.40×15.10م»: يتكون هذا الرواق من أربع بلاطات، في كل صف خمسة عشر عموداً ودعامة تحمل عقوداً دائرية، وفي هذا الرواق تقع مساحة البناء الأصلي للجامع.. سقوف الأروقة الشرقي والجنوبي والغربي تماثل سقف رواق القبلة، حيث تتكون من مصندقات خشبية تختلف وتتنوع زخارفها من مصندقة إلى أخرى ومن رواق إلى آخر، حالياً يتم ترميمها وقارب العمل على الانتهاء. للجامع مئذنة شرقية لها قاعدة مربعة يعلوها بدن مضلع وتنتهي بشرفة، وأيضاً مئذنة غربية بقاعدة مثمنة يعلوها بدن من ستة عشر ضلعاً يعلوه بدن اسطواني الشكل يعلوه بدن صغير وتنتهي بقبة.. ويضيف القاضي الرقيحي قائلاً بأن الجامع الكبير عانى وعلى مر السنين الكثير من الإهمال والضرر لأسباب عدة كما تعرض لبعض الكوارث الطبيعية كالسيول والأمطار الغزيرة إضافةً إلى بعض التخريب المتعمد والخراب بفعل الحروب والتقلبات السياسية التي حدثت لمدينة صنعاء خلال فترات تاريخية مختلفة، ناهيك عما تسببه المياه الجوفية من إتلاف وخلخلة لطبقات التربة حول وتحت أساسات الجامع, وكذلك ما يناله من ضرر جراء وجود مباني مشوهة ومتهالكة تحيط به وتلاصقه. لذلك بدأ في العام 2008م تنفيذ مشروع كبير لترميم الجامع الكبير بصنعاء كأول ترميم يتم بهذا الشكل لصيانة مبنى الجامع ومرافقه وملحقاته بشكل كامل على أسس علمية وفنية مجردة على أيدي خبرات يمنية وعالمية لإعادة رونق الجامع إلى المستوى الذي يستحقه كواحد من أبرز الجوامع في العالم, ولما يمثله من رمز روحي وتاريخي وأثري وفني ليس لليمن فحسب بل للعالم الإسلامي بشكل عام؛ كون من أمر ببنائه وحدد موقعه هو الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحالياً أعمال الترميم في نهايتها حيث يتوقع الانتهاء منها خلال نهاية العام الجاري.