قبل أن يكون للدراما التلفزيونية حضورها في القرى اليمنية؛ كانت الدراما الشعبية الشعرية في كل القرى والمدن يتناقل الناس الكاسيتات المسجلة فيها أعمال الشعر الشعبي من بيت إلى آخر إن لم يجتمعوا في جلسة إنصات حول «المسجّلة» التي فيها شريط شعري شعبي جديد بعناوين اجتماعية مختلفة اختيرت قضاياها من صلب هموم الإنسان اليمني في وطنه وفي بلاد المهجر؛ قضايا فيها جُرعة وعي كبيرة بلهجة شعبية شعرية جميلة وبأسلوب كوميدي حواري مضحك كما عُرف عن الشاعر «جعبار» في معظم أعماله الكثيرة.. بل أصبح الجميع يحفظ أشعاره ويستشهد بها لأنها تطابق ما يدور على أرض الواقع من مشاكل وهموم، فلقد كانت فترة السبعينيات والثمانينيات هي فترة الحضور الأكبر للشاعر جعبار في تعز ومختلف المناطق اليمنية وأصبح أشهر من نار علي علم، لم تكن رسالة جعبار الشعرية اجتماعية فقط بل كانت له أعمال سياسية كثيرة وخاصة في فترة الجبهة الوطنية بالمناطق الوسطي؛ فقد كان صوتاً شعرياً مجابهاً للتخريب في تلك الفترة، ولا تقل أعماله إيلاماً لدعاة التخريب آنذاك من الرصاص؛ فقد قاد بأعماله الشعرية السياسية ثورة حشد الناس نحو التخندق حول معركة بقائهم. حمل هم الوطن والمواطن؛ فكانت رسائل التهكم والسخرية التي يسطّرها بلهجته الشعبية حول قضايا سياسية لها وقعها القوي أيضاً عند صنّاع سياسات الفساد في هذا الوطن، فتمت ملاحقته في بداية التسعينيات حول عمله الشعري الكوميدي المسجّل حين تناول قضية الجرعة التي دشّنت حينها لتزيد من ثقل المعاناة على المواطن. الشاعر جعبار سيرة من الإبداع تواري في الظل بعد كل هذا العطاء؛ فكان لنا أن نبحث عنه ويكون في أول حوار صحفي، كان عليِّ أن أبحث أولاً عمّن يوصلني إليه، حصلت على تلفونه واتصلت به، رد عليِّ وعرّفته بنفسي وبطلبي منه، وعدني بأقرب وقت يتواجد فيه بتعز، مرّ شهر وأكثر دون أن يرن جوالي ليكون المتصل الشاعر الشعبي جعبار؛ حتى كان لقائي بالشاعر الجميل الدكتور اسماعيل الشميري، سألته عن جعبار وعن إمكانية إجراء حوار معه، فأكد لي أن طلبي إجراء حوار مع جعبار «خلّ هذا الموضوع عليّ» لم يمض أسبوع حتى اتصل بي الدكتور الشاعر اسماعيل الشميري وأخبرني بوجود الشاعر الشعبي جعبار في منزله، وقال لي: «ما عليك إلا أن تدوّن أسئلتك وتأتي على وجه السرعة» انطلقت صوب الصوت الشعري الشعبي الساخر “عبدالوهاب عبدالسلام خالد «جعبار» دردشت معه، وأتيت لكم بهذه الحصيلة الحوارية: .. حدّثنا عن نفسك أولاً..؟. اسمي عبدالوهاب عبدالسلام خالد. .. من أين أتى لقب «جعبار»..؟!. سبب لقبي “جعبار” هو عندما كتبت قصيدة اجتماعية مشهورة حول مشكلة حدثت في قريتي ما حبيت أذكر أسماء رمزت إليه باسم «جعبار» قلت فيها: جعبار حمود بعد العشاء أتى لي من قدام الباب أسقام دعا لي فكان الناس يطلبون منّي في كل مجلس قصة «جعبار» فانطبق الاسم عليّ وصار الناس ينادونني ب«جعبار» حتى أصبحت مشهوراً بهذا الاسم. .. هل في البداية انزعجت من اللقب الذي اخترته كي تشير به بشكل مستعار إلى شخص تناولت قصّته الاجتماعية وأصبح اسمك الذي اشتهرت به..؟!. اسمي الحقيقي عبدالوهاب عبدالسلام خالد؛ ولا أنزعج من اسم «جعبار» أبداً، وكنت أذكر فيما بعد هذا الاسم في كل عمل لي، الآن تصوّر لو تأتي إلى قريتي وتسأل أي طفل في القرية عن بيت عبدالوهاب عبدالسلام خالد؛ سوف يرد لا يعرفها؛ لكن لو قلت له: أين بيت «جعبار»..؟! على طول سوف يؤشّر لك إلى البيت.. ويضحك. .. وماذا عنك أيضاً..؟. نشأت في حضن جدّي “رحمة الله عليه” ودرست بكتاتيب القرية في شمير، وأصبحت أجيد القراءة والكتابة وكان عمري حينها في التاسعة، وظللت في القرية مع جدّي، وحين بلغت من العمر 15 سنة غادرت القرية وكانت وجهتي السعودية. .. أين حطت بك خطوات الغُربة في السعودية..؟. في مدينة رابغ على خط المدينة المنوّرة, جمعت في السعودية بين العمل والدراسة. .. بماذا كنت تعمل هناك..؟. عملت في أحد أفران الخبز، وقد جمعت بين العمل والدراسة، ففي تلك الفترة التحقت بمدرسة طارق بن زياد، وكنت أدرس في المساء والصباح أعمل في المخبز. .. كم استمرّت غربتك..؟. تقريباً سنة ونصف بقيت في العمل بالمخبز وبعدها عدت إلى أرض الوطن "تزوجت" كل هذا تقريباً في بدايات السبعينيات، ظللت فترات اغترابي مستمرة حتى بداية التسعينيات كانت النهاية للغُربة, وكانت محاولاتي الكتابية الأولى في الغُربة. .. متي بدأت كتابة الشعر..؟. بدأت كتابة الشعر في العشرينيات من عمري بالغُربة في السعودية، كنّا حين ننتهي من أعمالنا نجتمع كلنا طبعاً مغتربين وكل واحد يشكو إلى الآخر همومه وماذا جاء له من رسائل من البلاد، فكانت محاولاتي في تلك الفترة هي من صلب الهموم التي أعيشها أو التي يحكي لي عنها أصدقائي من المغتربين، فذاك يأتي يشك، لي همّه مع صاحب العمل، والآخر يشكو لي ما يصله من هموم عبر رسائل الأهل من اليمن، فكنت أعمل لكل واحد ثلاث أو أربع أبيات شعرية بأسلوب شعبي. .. طيّب متي كان انتشار أشعارك المسجّلة، وكيف..؟!. في منتصف السبعينيات كنت أسجّل قصائدي عند الأصدقاء؛ هكذا ليس بقصد أن تنشر، لكن فوجئت أن ما كنت أسجّله مع أصدقائي المغتربين أجده بالسوق في الاستوديوهات، أنا كنت أسجّله مع الأصدقاء وهم يتناقلونه حتى يصل إلى الاستيريو فيقوم بتوزيعها، فوجدت هناك قبولاً غير عادي وانتشاراً كبيراً..!!. .. ولمن كنت تقرأ من الشعراء وتأثّرت به..؟!. كنت أقرأ للشاعر عباس المطاع والشاعر محمد الذهباني؛ لأنهم كانوا يكتبون الشعر الشعبي، فكنت مشدوداً إلى ما يكتبون. .. وهل تكتب الشعر الفصيح..؟. أكتب الشعر الفصيح؛ لكن حين كنت أكتب الشعر الفصيح تجد أي واحد ينتقد الوزن؛ لكن الشعر الشعبي لا أحد ينتقدك، فكنت أكتب شعراً مسرحياً شعبياً يفهمه المتعلّم وغير المتعلّم، ومعظم ما كنت أكتبه في الغُربة هو عن هموم المغترب وما يكابده من هموم الاغتراب وقضاياه الخاصة حين يعود إلى وطنه. .. متي إذاً بدأت تسجّل أعمالك بشكل رسمي بقصد توزيعها وبيعها..؟. في الثمانينيات حين أعود إلى الوطن؛ كنت أقوم بتسجيل أعمالي الاجتماعية المسرحية بأسلوب فيه سخرية وبقصد معالجة القضايا وتوضيح الحلول. .. أين كنت تسجّل أعمالك..؟!. في استيريو بشمير في المديفن. .. هل كان هناك مقابل مادي لتسجّل عنده أعمالك..؟!. لم أكن أتقاضى أي حقوق في تلك الفترة إلا مؤخّراً عندما صارت أعمالي منتشرة انتشاراً كبيراً جدّاً، حيث انتقلت للتسجيل باستيريو 13 يونيو في تعز؛ فكان يعطيني حقوقاً مادية، وما حصلت فيه على حقوق مادية «كاستان» فقط. .. متى كان ذلك..؟!. تقريباً في عام 85م. .. هل صاحب الاستيريو هو من يطلب منك أعمالاً معيّنة، أقصد فيما يتعلّق بالمشاكل الاجتماعية..؟!. كنت أقدّم له أعمالاً وهو ينشر بما لا يسبّب له مشاكل مع وزارة الإعلام وخاصة منها الأعمال السياسية، فكانوا يحذفون الفقرات السياسية التي لا تناسب الجهات الرسمية، واستمررت في التسجيل عند استيريو 13 يونيو فترة كبيرة، وكانت أعمالي تُنتشر في مختلف مديريات تعز والمدن الأخرى. .. وماذا عن أعمالك في فترة حروب المناطق الوسطى فيما عُرفت ب«الجبهة»..؟!. كنت أكتب أشعاراً مناهضة لما يقومون به من تخريب بأسلوب متهكّم وقاسٍ. .. هل كنت تعتبر منبراً إعلامياً رسمياً مع القوى المناهضة للجبهة في تلك الفترة..؟!. نعم كنت ضمن الجهة الإعلامية في القوات الشعبية المناهضة للجبهة، عملت في شمير مع الدكتور عبدالولي الشميري في تلك الفترة ومحمد علي عجلان وسليمان الأهدل؛ فكان الدكتور عبدالولي الشميري والإخوة المذكورون هم من يتبنّون تسجيل أعمالي الشعرية وينشرونها وخاصة منها المناهضة للجبهة. .. كم هي الأعمال التي تناولت فيها الجبهة..؟. تقريباً «كاستان» وكان لهما تأثيرهما وصدى كبير على مستوى المناطق الوسطى كاملة. .. هل واجهت تهديدات من قبل الجبهة بسبب ما كنت تكتبه ضدّهم..؟!. نعم كانت لنا أجهزة اتصالات تبث بطريقة “اف. أم” من مواقعنا في جبل هكمان إلى مواقعهم في جبال شرعب؛ فكانوا يدخلون في الموجة، وكانت ترسل لي التهديدات، وقد حُكم عليّ ب«الإعدام» من قبل الجبهة غيابياً، وكان أحّدهم يهدّدني أنه سوف يقطع لساني، فكان يؤكد “لازم نقطع لسانك”..!!. .. لماذا كل هذا الانزعاج الشديد..؟!. كنت أكتب عنهم بشكل ساخر جداً ومنها هذا المقطع: هذا أبو طارق وذاك حناكش «يضحك» وكذلك: “أينك يا نعمان ما تدافع تحمي جدار بيتك من المدافع أما تدّعي أنك بطل وشاجع ولك أيادي مخلصين وأنصار» وغيرها من القصائد