ومن ناحية التطبيق العملي يستجيبون أيضا وبسرعة إلي مستوي روعة الأداء المتميز إذا جمعهم مشروع قومي تلتقي فيه إرادتهم تلاقيا حرا فإذا ارتبط هذا المشروع بغاية كبري هي الله والجنة ثم النهوض والتحرر من الرق الثقافي. والأسر الحضاري فستكون النتائج مبهرة وحليفنا علي ذلك حب المصريين لدينهم ولوطنهم وارتباطهم به فتلك تربة يتشبث الإيمان بترابها فإذا حافظنا علي ما فيها من بذور الخير المتمثلة في رصيد الفطرة وسقينا أشجارها بماء العمل الجاد فستحصد مصر والعالم كله خيرها وبرها. وهنا أؤكد أن بداية المشروع تنطلق من إدراكنا أن فقه الحياة فريضة دينية ومن ثم يتحتم العمل علي الخروج من حالة الاستلاب الثقافي والعودة إلي الشهود الحضاري وذلك يتطلب أن نتخلص من ثقافة النهب السائدة والانتقال منها إلي ثقافة العدل والكرامة والعطاء الوطني علينا أن نتخلص من ثقافة العبث والعجز إلي ثقافة التخطيط والاقتدار والقوة ولقد نادينا وما زلنا ننادي وأفتينا ونفتي وأفتي العلماء كذلك باتفاق أن إقامة الحرف والصناعات التي لا يقوم المجتمع إلا بها ولا تصح ولا تصلح حياة الناس إلا عليها فريضة دينية وعلي الذين تخصصوا فيها وتفرغوا لها أن يتقنوها وأن يبدعوا فيها, ولكي يتم ذلك لابد من منظومة أو نسق معرفي جديد ينطلق أساسا من الفهم الصحيح لكتاب ربنا وسنة نبينا والنسق المعرفي الذي نسعي أن نصبغ به مجتمع ما بعد الثورة يبدأ بعد التركيز علي بناء الإنسان وتشييد عمارة قلبه وعقله ووجدانه لأنه المرتكز الأساس لأي حضارة ولا يمكن أن يتم ذلك إلا اذا دخلنا مرحلة ربيع الفكر الذي يبدأ من حقل الحرية وصياغة مفاهيم جديدة تدخل الشأن الخاص في الشأن العام وتمزج بينهما. أدوات النقل وآلياته في الدخول لهذه المرحلة هي المسجد والإعلام والتربية والتعليم ومؤسسات البحث العلمي والمنطلق لابد أن يبدأ من الاستقامة وإلا فلا فائدة في كل جهد مبذول تصحبه نيات شريرة وكم من مشروعات لا ينقصها دقة التخطيط باءت بالفشل لأن من تولاها لم يكن نظيف الأخلاق والضمير واليد وكما يقول( د.عبد الرزاق السنهوري): من حق الحياة علينا أن نؤمن بالاستقامة قبل أن نبدأ العمل فما أثمر كفاح زاملته الخطايا لذلك فإعلام الغواية بمعناها العام سياسية واجتماعية واقتصادية لابد أن ينتقل لإعلام الهداية بمعناها العام أيضا والنمط السائد في خطب المساجد لابد أن يتغير وكذلك برامج التعليم والتربية والفن لتكون ذمة المجتمع واحدة تدور حول غاية واحدة وإن تعددت وسائل الصياغة والتأثير ومن ثم يجب أن يتضمن النسق المعرفي الجديد تصنيفا وتوصيفا وتفصيلا جديدا للفرائض الدنيوية التي تبدأ تفصيلا بالفرائض الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونقيضها يكون بالتقصير في تلك الفرائض ويصنف علي أنه باب في الكبائر الاقتصادية والاجتماعية, والسياسية والمقصود من ذلك أن ندخل الحياة بميادينها المختلفة لتكون جزءا من الدين ومجالا لتطبيقه تحقيقا وتصديقا لقوله تعالي:, قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين]( الأنعام162 163) ومن ثم يدخل الشأن الخاص في الشأن العام ليكون جزءا من المشروع الوطني الكبير وليشكلا معا رافعة من روافع التقدم والنمو والنهضة. وقد قلت وكتبت أنه إذا كان الله والجنة هما الغاية الكبري فعلينا أن ندرك أن الطريق إلي ذلك يبدأ من الدنيا دار التكليف والعمل فلا يمكن الوصول إلي الآخرة الصالحة إلا من خلال الدنيا الصالحة وصلاح الدنيا لا يكون بتركها للشياطين المهتاجة لتوجهها إلي الشر وتستخدمها في نصرة الباطل وحصار الحق وأهله وإنما بعمارتها والسيطرة عليها وترقية الوجود فيها باسم الله وهنا نتذكر كم خسرت الدنيا حين غاب المسلم عن دوره ورسالته وحصر دينه فقط في جنبات المسجد وقد كانت هذه هي غاية الآخرين. علينا أن نغرس في حس المسلم وضميره أنه ليس متدينا من يترك دنياه بحثا عن صلاح آخرته فالأولي مزرعة الثانية والصلاح في الأولي مقدمة لبلوغ الصالحات في الآخرة. قائمة أولويات المسلم تحتاج إلي تعديل ويفترض فيه أن يكون عنصرا مشعا بالخير الذي تحمله رسالته للناس وهذا يتطلب منه أن يكون فاعلا ومؤثرا وله حضوره المتميز بين الخلائق وعلينا أن نعلم الناس أن المسلم عندما يتخلي عن أداء دوره يتمدد الشيطان في المساحات الفارغة التي تركها المسلم ومن ثم يفرض الشيطان علي الدنيا رؤيته وقوانينه وتصوراته وهنا تكون الطامة والخسارة الكبري. ولقد أشار إلي ذلك العلامة الندوي بعنوان لكتاب كامل: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين. المناهج الثقافية والفكرية التي استوردناها معلبة ثبت فشلها في أكثر من تجربة ولابد من الوعي بالفرق الكبير بين عالم الأشياء وعالم الأفكار والتكنولوجيا من عالم الأشياء لا من عالم الأفكار والرؤية الإسلامية أوسع وأعلي أفقا وأهدي سبيلا في التعامل مع الإنسان وفي تحليل دوافعه وبواعثه ومعرفة مواطن القوة والضعف فيه من أي منهج آخر وليست تتم هذه الرؤية بمجرد حفظ النصوص وترديدها وإنما تتم بالغوص فيها والتعرف علي مكنونها ومخزونها واستخراج كنوزها وإدراك مقاصدها وتوظيف ذلك كله في تغيير السلوك والدفع تجاه التغيير والنهضة. علينا أن نعلم الناس أن واجبات الحياة كواجبات الدين وبهما معا تتحقق عمارة الأرض وبهما معا يستطيع المسلم أن يحمي كرامته وإنسانيته وحتي قيمه الدينية والأخلاقية. علي الخطباء والأئمة والعلماء أن يعلموا الناس أن الحياة في سبيل الله أشد تكلفة وأكثر عناء من الموت في سبيل الله فالأخير لا يحتاج إلا لحظة يكون الموت فيها هو الخيار الأفضل. بينما الحياة في سبيل الله تحتاج إلي جهد وكد وصبر ومعاناة ولو عاش المسلمون حياتهم في سبيل الله لاستراحت الدنيا وهدأت كل عواصف الشر في العالم. الجامعات ودور البحث العلمي لهم أيضا دور كبير وعليهم أن يبدأوه فالفرصة سانحة الآن ويجب أن نبدأ بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق إذا كنا فعلا نريد أن ننهض. ثقافة الواجب أولا يجب أن تسود وعلي كل المستويات قبل المطالبة بالحقوق وعي الشارع وإحساسه بالملكية العامة لابد أن ينمو ويتفاعل ويدرك أن الشارع الذي نسلكه من بيوتنا لأعمالنا إنما هو نعمة يجب أن نحافظ عليها بنظافته والانتظام فيه وألا نسمح لأي فئة من فئات المجتمع بقطعه أو تعطيل السير فيه. المرافق التي نستعملها وسيلة لتيسير حياتنا وخدماتنا وتحقيق ما نريد وينبغي أن نهتم بها ولا نكون سببا في تعطيلها. وأحسب أن مخزون الإرادة في الشعب المصري الأصيل يستطيع أن يستثمر ما هو متاح من ثروة مصر وهو قادر أن يحول مصر وصحراءها إلي روضات وجنات إذا عرفنا كيف نستفزه ليتحرك وكيف نوجهه ليعمر ويضيف ويبدع. محزون الإرادة في هذا الشعب الأصيل بني الأهرامات قديما وصنع حضارة مازالت آثارها تحدث الدنيا عن مصر وقام هذا الشعب بثورة بهرت عقول العالم حتي شهدت أن أم الدنيا ما شاخت إرادتها ولا اهتزت يمينها ولا اضطربت قواها وأنها وإن قبضت علي النار ثلاثين سنة إلا أنها ما زالت ولادة ولا يزال لها من أبنائها من يقود علي طريق الخير خطاها ويقبض علي نيران مشكلاتها باقتدار وتحمل للمسئولية ويداه غير مرتعشتين. فهل يمكن أن نكف عن معارك طواحين الهواء ونستغني عن الأدني ونغلب مصلحة الوطن ونبدأ بالذي هو خير