لا يملك المرء إلا أن يقف ذاهلاً إزاء قدرة الأدب الألماني الهائلة على سبر أغوار النفس الإنسانية وكشف النقاب عن تمزق الكائن البشري وصراعاته الداخلية، وعن تلمسه سبلاً مستحيلة للنجاة وهو يواجه مشكلات مستعصية كالهوية والحب والمرض والموت، إضافة بالطبع إلى إسهام الفكر والأدب الألمانيين في قيام حركة الحداثة وبلورة رؤى ومفاهيم جديدة أسهمت إلى حد كبير في نقل العالم إلى ما هو عليه اليوم . واللافت في هذا السياق هو تحاشي الألمان بوجه عام لكل ما هو فائض وإنشائي وجانح نحو الغنائية المجردة والتفجع العاطفي، أو الزخرف الجمالي الذي حكم الكثير من الآداب الأوروبية الأخرى . كما لا يمكننا التغاضي عن قدرة الألمان، وبخاصة في الجانب الروائي، على تحويل أبطالهم إلى نماذج إنسانية فريدة قادرة على مغادرة النصوص المجردة والنزول إلى الساحات الحقيقية للحياة اليومية . لن أتوقف في هذه العجالة عند الفكر الفلسفي المتوقد الذي مثله هيغل وكانت وكارل ماركس وآخرون غيرهم، بل يمكن التوقف عند غوته، الشاعر والروائي المعروف، الذي سعى نابليون بونابرت إلى مقابلته في فايمار حين كانت جيوشه الجرارة تدوس ألمانيا بالأقدام وعجلات المدافع . يومها تمتم نابليون بعد حديثه مع غوته "هذا رجل"، وكان يقصد في قرارته بأنه وهو "يؤنث" أوروبا بفحولة جبروته العسكري، استطاع أخيراً أن يعثر على مظهر للرجولة يطل من جهة الفكر والإبداع المستنير . والواقع أن أحداً لم يدرك المعنى الملتبس للحداثة الغربية كما فعل غوته الذي جعل بطله فاوست يبيع روحه للشيطان مقابل الحصول على المعرفة وأسرار تطور العقل وتجدده . وهذا ما حدث تماماً على أرض الواقع حيث إن التطور التكنولوجي والعلمي أفرغا الإنسان من عاطفته ونشاطه الروحي واضطرام قلبه وضميره . ألم يتحدث شبنغلر بعده بعقود عن تدهور الحضارة الغربية، بعد تفريغها من المثل والقيم وتحويلها إلى لهاث دائم وراء المظاهر السطحية وتراكم الثروات؟ ألم يكن ندم ألفرد نوبل على اكتشاف الديناميت الذي أودى بحياة الملايين في الحروب هو الأساس الأخلاقي للجائزة التي سميت باسمه؟ سيمكننا بالطبع أن نعثر في شاعريات ريلكه وهلدرلن وغونفريد بن وبرخت وأنسبرغر وغيرهم على ما يظهر هشاشة الإنسان أو مكامن قوته وطاقته الروحية المختزنة . لكن الوجه المأساوي للحداثة مثلته روايات كافكا، الذي ينتمي للثقافة الألمانية رغم أصوله التشيكية، الذي جعل بطله في روايات "القضية" يتعرض لمحاكمة متعسفة على فعلةٍ لم يرتكبها في الأصل، ليصل أخيراً إلى حبل المشنقة من دون ذنب اقترفه . وهو ما يعكس بوضوح عبثية الوجود الإنساني، وبخاصة في العصور الحديثة التي تحول المجرمين إلى قضاة، وتسوق الضحايا إلى أقدارهم الفاجعة . وفي رواية "التحول" يستيقظ بطل الرواية ليجد أنه يتحول تدريجياً إلى حشرة كبيرة لا تمت بصلة إلى أصلها الإنساني، تماماً كما هو حال البشر المطحونين تحت رحى الآلات الضخمة والمصانع والشركات التي "يطن" البشر في داخلها كالحشرات أو العجلات أو الأرقام . لا يمكن أيضاً إغفال توماس مان الذي، رغم مواقفه السياسية المريبة، استطاع أن يكشف النقاب بدوره عن معاناة البشر وأسئلة الهوية والوجود والزمن . وهو في "موت في البندقية" يطرح، من خلال إعجاب الكاتب العجوز بشباب الفتى المراهق، أسئلة عميقة تنفذ إلى علاقة اللغة بالحياة وإلى عجز الأولى عن منافسة الثانية واحتلال مكانها الشاغر . فالكاتب العجوز يشعر بأن كل لغات الأرض لا تستطيع إعادة عجلات الحياة سنة واحدة إلى الوراء، وأن الحياة الحقيقية تتمثل في الشباب الذي يقف قبالته، لا في الكلمات المنمنمة التي تنقصها الحرارة والحيوية . ثمة كثيرون لنتحدث عنهم هنا، ولكن هرمن هيسه يطل برواياته المدهشة لكي يتصدر الذاكرة . فهو في "ذئب البوادي" يكشف النقاب عن الذئب الآخر الذي يتمطى في أعماق الإنسان منتظراً دوره في افتراس الملذات أو الانقضاض على الآخرين . وفي روايته الأخرى "سدهارتا" يبتكر من عندياته بوذا آخر لا يقيم في العزلة الخالصة وإماتة الجسد ومحوه، بل في المصالحة الفعلية بين الجسد والروح، والإيمان بالنفس كطريق إلزامي للإيمان بالعالم وبالآخرين . هكذا يتفتح كل عمل أدبي ألماني في عهدة الحقيقة واكتناه ألغاز الوجود والمصائر، لا في عهدة الإنشاء البلاغي والجماليات الشكلية والغناء العابر .