في خطابي التنصيب اللذين ألقاهما الرئيس الأمريكي عامي 2009 و،2013 دعا باراك أوباما إلى إحلال الدبلوماسية محل التهديد العسكري . ولكن إخفاقه خلال ولايته الأولى في لجم الاندفاعات الإمبراطورية الأمريكية من دون سابق تفكير يجعل العالم يرتاب في بلاغته السياسية في بداية ولايته الثانية، وهذا كان موضوع مقال نشره موقع "كونسورتيوم نيوز" للكاتبين الزوجين فلينت وهيلاري مان ليفريث . وسبق أن عمل فلينت ليفريث خبيراً في شؤون الشرق الأوسط لدى مجلس الأمن القومي في إدارة جورج بوش حتى حرب العراق، وقبل ذلك عمل في وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) وزوجته هيلاري عملت هي أيضاً عضواً في مجلس الأمن القومي كخبيرة في الشؤون الإيرانية من 2001 إلى ،2003 وكانت أحد بضعة دبلوماسيين أمريكيين فقط مصرحاً لهم بالتفاوض مع إيران حول مسائل أفغانستان، والقاعدة، والعراق . وفي مقالهما بعنوان "شك في حديث أوباما عن الدبلوماسية" كتبا يقولان: عندما ترشح باراك أوباما في المرة الأولى للرئاسة، كان أهم وعد له في مجال السياسة الخارجية هو أن ينهي ليس فقط حرب العراق، وإنما أيضاً "الحالة الذهنية" التي أوقعت الولاياتالمتحدة في ذلك الشذوذ الاستراتيجي . وخطابه في حفل تنصيبه الأول شدد على فكرة أن أمريكا ستمارس قيادة حقيقية من خلال إحياء الدبلوماسية و"الحوار" كعنصرين أساسيين في الاستراتيجية الأمريكية . وفي ذلك الحين، كان الزعماء والشعوب في طهران، وموسكو، وبكين، وأماكن أخرى عديدة عبر العالم يتوقون لأن يفي بوعده . وفي خطابه في حفل تنصيبه الثاني، استرجع الرئيس أوباما هذه الرؤية، وذكر الأمريكيين بأنهم "ورثة أولئك الذين كسبوا السلام وليس فقط الحرب، والذين حولوا أعداء لدودين إلى أوثق الأصدقاء، وسوف نظهر الشجاعة في السعي لحل خلافاتنا مع دول أخرى سلمياً - ليس لأننا ساذجون أمام الأخطار التي نواجهها، وإنما لأن الحوار يمكنه أن يزيل الريبة والرهبة بصورة أكثر ديمومة" . إلا أن كلماته الآن لم تعد تستهوي سامعيه في القسم الأكبر من العالم . ذلك أن إدارته لم تفهم أبداً أن الحوار لا يمكن أن يكون فعالاً إلا إذا كان يعني أكثر من مجرد تكرار مطالب أمريكية مطروحة منذ حين، والاستمرار في رفض مصالح ودواعي قلق أطراف أخرى، والتشدد أكثر ضدها . في الشرق الأوسط، وعد أوباما بالدخول في حوار مع إيران، وإعطاء أولوية أولى لحل المسألة الفلسطينية، وإعادة تحديد موقف أمريكا تجاه العالم الإسلامي . ولكن مقاربة أوباما للحوار مع طهران أعادت تكرار المطالب ذاتها بشأن المسألة النووية التي طرحها سلفه جورج بوش، وشددت في الوقت ذاته الجوانب الإكراهية للسياسة الأمريكية (من مثل العقوبات، والعمليات السرية، والهجمات الإلكترونية) عندما لم تكن إيران تستسلم للمطالب الأمريكية . وإذا ما شن أوباما، في ولايته الثانية، حرباً جديدة من أجل تجريد بلد آخر في الشرق الأوسط من أسلحة دمار شامل لا يملكها، فسوف يكون ذلك كارثة بالنسبة لموقف أمريكا في الشرق الأوسط . ولكن هذا هو بالضبط الاتجاه الذي تسلكه استراتيجية أوباما الراهنة بصورة عنيدة . وقرارات أوباما بالسماح ل"إسرائيل" واللوبي المناصر لها في الولاياتالمتحدة بتضخيم "الخطر" الإيراني، واسترضاء حكومة نتنياهو بأقوى دعم عسكري أمريكي حصلت عليه "إسرائيل" يوماً، لم تخرج الدبلوماسية النووية مع طهران عن سكتها فحسب، بل جعلت أيضاً من المستحيل على أوباما أن يمارس أي نفوذ على نتنياهو في ما يتعلق بالمستوطنات "الإسرائيلية"، أو يدعم حصول الفلسطينيين على وضع دولة في الأممالمتحدة . ونتيجة لذلك، لم يعد أوباما يدير عملية سلام مجمدة فحسب، بل هو يشرف أيضاً على احتضار حل الدولتين . وهذه السياسات قضت على أي أمل ربما علقه الشرق أوسطيون على أوباما . وفي أعقاب تنصيب أوباما في ولايته الأولى، بدا وكأنه يستطيع الذهاب إلى أي مكان في العالم الإسلامي . وقد اختار القاهرة منبراً لخطاب أساسي كان هدفه ظاهرياً بدء علاقة جديدة مع العالم الإسلامي، ترتكز على الحوار وليس الإملاء . أما اليوم، في وقت تفرض الجماهير في الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى دورها في صنع مستقبلها السياسي، فسيكون من الصعب إيجاد عاصمة شرق أوسطية تستضيف أوباما من دون حساب لكي يلقي مثل ذلك الخطاب . وقد تبين أيضاً، من منظور موسكو، أن "إعادة تنشيط" العلاقات مع روسيا التي طالما تباهى بها أوباما، لم تكن غير صادقة فحسب، بل مخادعة، وبالنسبة لروسيا، فإن الأمثلة على الغدر الأمريكي تشمل استمرار حلف الأطلسي في خططه لنشر رادارات مضادة للصواريخ في أوروبا، واختيار أوباما شخصاً يفتقر للخبرة الدبلوماسية ويتبنى أساساً آراء المحافظين الجدد بشأن روسيا سفيراً في موسكو، وتحريف قرار مجلس الأمن الذي سمح بتدخل إنساني في ليبيا من أجل شن حملة عسكرية تستهدف تغيير نظام، وتقديم دعم من أجل إسقاط الحكم في سوريا، وتبني الكونغرس وأوباما تشريعاً حول حقوق الإنسان استهدف روسيا على وجه التخصيص . ومنذ إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً لروسيا العام الماضي، وهو يرفض جميع الدعوات لزيارة البيت الأبيض . وفي بكين، أصبح القادة الصينيون مقتنعين الآن بأن ما وصفه مسؤولو إدارة أوباما في البداية ب"الانعطاف الاستراتيجي" من الشرق الأوسط إلى آسيا، ويصفونه الآن ب"إعادة التوازن"، إنما يقصد به في الحقيقة احتواء الصين و"إبقاؤها تحت السيطرة"، على الرغم من أن نموها الاقتصادي يتقدم باطراد . وصانعو السياسة والنخب السياسية في الصين يشعرون الآن بقلق متعاظم من أن الولاياتالمتحدة أخذت تتخلى عن الصفقة الاستراتيجية الأساسية التي حققت التقارب الصيني - الأمريكي في السبعينات، والتي قضت بأن تقبل واشنطن بصعود سلمي لجمهورية الصين الشعبية، وألا يسعى أي من البلدين إلى هيمنة عسكرية في آسيا . والعالم عموماً أخذ ينبذ أكثر فأكثر فرضية أن الولاياتالمتحدة يمكن أن تتصرف بطريقة تختلف عن سلوك قوة إمبراطورية، بل أن عدداً متزايداً من اللاعبين المهمين في الشؤون العالمية أخذوا ينظرون إلى الولاياتالمتحدة على أنها قوة إمبراطورية في طور انحدار . والحفل الثاني لتنصيب أوباما لم يعط أية علامة على إدراك هذا الواقع وهذا لا يبشر بأي حال بأن تتمكن أمريكا من استعادة مكانتها الدولية خلال ولاية أوباما الثانية.