مواضيع ذات صلة فهمي هويدي خلال الأسبوعين الأخيرين تلقت القاهرة رسالتين لهما دلالة خاصة، إحداهما من واشنطن والثانية من تل أبيب. الأولى بعث بها الرئيس باراك أوباما أثناء المناظرة الرئاسية الثالثة، وقال فيها صراحة إن إسرائيل تعد خطا أحمر بالنسبة للولايات المتحدة في علاقتها بمصر، وأن أي اهتزاز لمعاهدة السلام يضع أمن إسرائيل بل أمن الولاياتالمتحدة على المحك، الأمر الذي لابد له أن يؤثر على علاقة القاهرةوواشنطن. الرسالة الثانية وجهها رئيس الإدارة السياسية بوزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد، والتي قال فيها أثناء حديث له في مؤتمر أقامته الوزارة إنه لا يوجد حوار بين الرئيس محمد مرسي والقيادة الإسرائيلية، وأعتقد أنه لن يكون. وإذ أعرب عن تشاؤمه بالنسبة لمستقبل العلاقات بين البلدين، فإنه وصف النظام الحالي في مصر بأنه «ديكتاتوري» وقال إنه أقصى الليبراليين وشباب الثورة... الخ. الرسالتان ليستا منفصلتين عن حالة البرود المخيمة على العلاقات المصرية الإسرائيلية منذ ثورة 25 يناير، حين فقدت إسرائيل «كنزها الإستراتيجي» بسقوط الرئيس السابق ونظامه. ورسالة البرود تلك تلقتها إسرائيل عبر قنوات وقرائن عدة. إذ لم تنجح الوساطات الأمريكية في ترتيب لقاء الرئيس المصري بالرئيس الإسرائيلي. وفي حدود علمي فإن أكثر من مسؤول أمريكي عرض الأمر على الرئيس مرسي إلا أنه لم يتلق ردا إيجابيا، ولكن الرئيس سمع الكلام ولم يرد. ولاحظ المراقبون أن الرئيس المصري لم يذكر إسرائيل في أي من خطاباته. ولم تفتهم ملاحظة تعليق رئاسة الجمهورية على الخطاب الودي والحميم الذي قدم به السفير المصري الجديد لدى إسرائيل أوراق اعتماده إلى رئيسها، وقول المتحدث باسم الرئاسة إن صيغة الخطاب كانت خطأ لن يتكرر. لاحظوا أيضا أنه لم يعقد حتى الآن أي اجتماع بين القيادة الجديدة في مصر وبين نظرائهم الإسرائيليين. وأن الاتصالات بين البلدين لا تتم إلا عند الضرورة وتجري بين الموظفين المختصين على الجانبين. كما أنهم قرأوا رسالة في ذات الاتجاه من خلال امتناع وزير الدفاع المصري الجديد اللواء عبدالفتاح السيسي عن الرد على الاتصالات الهاتفية التي تصل إلى مكتبه من نظيره الإسرائيلي إيهود باراك. هذه الإشارات جاءت كافية في الدلالة على أن علاقات مصر وإسرائيل في حدها الأدنى باتت مختلفة عما كانت عليه في السابق، والقرائن السابقة تؤيد بوضوح هذا المعنى. عندي في هذا الصدد أربع ملاحظات هي: أنني أتفهم الحذر المصري إزاء ملفات السياسة الخارجية، وأدرك أن استقرار الأوضاع الداخلية وقوة تماسكها من الأمور التي ينبغي أن تحظى بالأولوية. لأن قوة الداخل هي التي تفرض القوة في الخارج وإذا وضعنا في الاعتبار أننا نتحدث عن بلد يريد أن يستعيد دوره الريادي في المنطقة، فإننا نتوقع على الأقل حدا أدنى من الوضوح في سياساته الخارجية، لا يدع المجال للتخمين والاستنتاج والتقاط الإشارات التي تطلق في الفضاء الإعلامي. إن من حق مصر بعد الثورة أن يكون لها أيضا خطوطها الحمراء التي ينبغي أن يكون الآخرون على علم بها. وإذا أراد الرئيس الأمريكي أن يعلن للجميع أن إسرائيل خط أحمر بالنسبة لواشنطن، فلمصر أن تعلن أن استقلال قرارها الوطني واحترام إرادة شعبها والدفاع عن أمنها القومي الذي يهدده الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي وانتماءها إلى الأمة العربية، هذه بدورها خطوط حمراء لا تقبل من أي طرف أن يتخطاها. إن إسرائيل نجحت في أن تربط بين مصالحها وأمنها وبين مصالح الولاياتالمتحدة وأمنها، حتى وجدنا في خطاب الرئيس أوباما إشارته إلى أن أي اهتزاز لمعاهدة السلام لا يمس أمن إسرائيل فحسب، وإنما يؤثر على أمن الولاياتالمتحدة أيضا. وحتى إذا كان لهذه اللغة هدفها الانتخابي الذي أريد به كسب أصوات اليهود الأمريكيين، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أن مصر ومن ورائها الأمة العربية بما تملكه من ثروة نفطية تعد أحد شرايين الحياة للدول الصناعية لم ينجحوا في إقناع واشنطن بأنهم أيضا طرف لا غنى عنه في حسابات المصالح. إن رسائل التحذير الموجهة إلى مصر من واشنطن وتل أبيب لم تلق ما تستحقه من اهتمام في وسائل الإعلام المصرية، وباستثناء تحليل وتعليق لحكاية الخط الأحمر الأمريكي نشرته صحيفة «الشروق» لمراسلها في واشنطن الزميل محمد الشناوي. فإن بقية الصحف المصرية التي وقعت عليها لم تكترث للأمر. وحين يقارن المرء ذلك التجاهل بالضجة الكبرى التي أثارتها وسائل الإعلام المصرية عندما سربت إسرائيل خطاب الرئيس مرسي إلى الرئيس الإسرائيلي لاعتماد السفير المصري الجديد، فإنه لا يستطيع أن يخفي حيرته ودهشته. بل لا يكاد يجد تفسيرا بريئا لتلك المفارقة. إذ حين نشر نص الخطاب فإن أغلب وسائل الإعلام وأغلب المعلقين تحدثوا عن «الصفقة» بين السلطة الجديدة في مصر وبين واشنطن، التي تفتح الأبواب للتطبيع والمصالحة مع الإسرائيليين، وشنوا هجوما قاسيا على الرئيس مرسي جراء ذلك. ولكن حين ثبت أن ذلك غير صحيح بدليل التحذير الأمريكي، والتقييم الإسرائيلي، فإن الجميع التزموا الصمت وتجاهلوا الإشارات القادمة من واشنطن وتل أبيب في هذا الصدد. الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إن حرصهم على الاصطياد للرئيس مرسي وتشويه صورته يتجاوز بمراحل رغبتهم في تصحيح العلاقة مع إسرائيل. كأن معركتهم الحقيقية ليست مع إسرائيل ولكنها مع الرئيس المنتخب.