يؤكد الخبير البيئي الدولي، حسام صالح جبر، أن مياه العراق غير صالحة للاستخدام البشري، وأن التلوث بلغ درجات مفزعة، حتى أنه وجدنا آثارًا للرصاص في حليب الأمهات بالبصرة. السويد: بعد الحروب والحصارات الطويلة، استفحلت الأضرار والعلل التي أصابت البيئة في العراق، وهي تبرز اليوم كأخطر مشكلة تقتضي المعالجة الجدية العميقة والشاملة. لقد غيّبت هذه القضية فترات طويلة لأسباب كثيرة، بينما يطرح في المحافل العالمية المختصة سؤال رهيب: هل العراق اليوم مكان صالح للسكن؟ التقت "إيلاف" البروفسور حسام صالح جبر للحوار معه في ذلك. فهو منشغل بهذه القضية منذ عقود طويلة. وكان عمل في العراق سنوات عديدة منذ منتصف الستينات، ثم اضطر لمغادرة العراق. وواصل دراسته وبحوثه في قضايا تلوث مياه الشرب والبيئة في بودابست، وعمل في التدريس في عدد من جامعات الجزائر والمجر والسويد. يعمل حاليًا مستشارًا متقدمًا في شركة (SWECO) السويدية. وقد أفاد جبر أن أهم مسببات التلوث هو طرح مياه الفضلات البشرية غير المعالجة، أو المعالجة جزئيًا، إلى المياه السطحية مباشرة، ما أدى إلى ارتفاع أعداد وأنواع البكتيريا المرضية،"ومن تزايد ما يطرح في المياه من فضلات صناعية وعناصر ضارة، ومن مواد متدفقة من مصانع النسيج والمدابغ والمسالخ، كالرصاص والزئبق والكادميوم والنحاس والزنك والسيانيد، ومن تسرب زيت جوفي وسطحي وغازات مختلفة من المنشآت النفطية خصوصًا في البصرة، ومن انبعاث المواد السامة من محطات الطاقة والمولدات إلى الماء والهواء". وقال جبر ل"إيلاف": "المياه السطحية في جنوبالعراق بشكل عام غير صالحة للأنشطة البشرية المباشرة، مثل الشرب الاغتسال والسباحة! فقد وجدنا فيها زيادة كبيرة في نسبة المواد الكيميائية، وبشكل خاص زيادة في تركيز الرصاص والزئبق، ووجدنا في الفرات الأوسط أثار الرصاص في حليب الأمهات!". في ما يلي متن الحوار: ما هي القطاعات التي شملتها درايتكم الميدانية؟ الانطباعات المفزعة حول وضع العراق هي التي دفعت بشركتنا السويدية، بقرار وتمويل من البنك الدولي، إلى إرسال فريقنا لمعاينة الوضع البيئي في العراق، وإجراء التحري العلمي والميداني. نعرف أن العراق، خصوصًا المنطقة الجنوبية منه، كان منطقة حروب كبيرة وواسعة استمرت سنوات طويلة، استهلكت في هذه الحروب مختلف أنواع الأسلحة والعتاد الخطرة جدًا. ومع الإهمال الطويل، والاستعمالات السيئة على نطاق واسع، تركت أضرارًا عميقة في البيئة يقتضي علاجها جهودًا جبارة وطويلة. وشملت دراساتنا مجالات الماء والتربة والهواء والضوضاء، لتحديد مدى التلوث وتأثير ذلك على الصحة العامة، والمجالات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وكذلك قضية تطوير البيئة وإعادة النظر في القوانين والتشريعات البيئية ووضع خطة لتنمية الوعي البيئي. اختيرت كل من محافظات بغداد والبصرة وبابل كنماذج؛ حيث تم إجراء مسح بيئي شامل لهذه المحافظات. في نهاية الدراسة تم إعداد خطة عمل بيئية سريعة يمكن تطبيقها خلال فترة ثلاثة إلى خمس سنوات. تلوّث مائي خطير ما هو تقيمكم لمدى تلوث المياه في العراق؟ العلاقة بين مصادر المياه والاستخدامات المختلفة للماء يغلب عليها طابع عدم التوازن والانسجام، حتى في الظروف الطبيعية. هذه المعادلة تدهورت كثيرًا في العراق خلال العقود الأخيرة، بسبب الإهمال وفقدان التنظيم والتنسيق في العمل، والحروب والصراعات والفساد وتدمير البنى التحتية، خصوصًا مؤسسات تصفية ومعالجة المياه والمؤسسات الصحية، ونقصان التعاون الإقليمي والدولي الذي أدى إلى شح كبير في مياه دجلة والفرات والروافد الأخرى. كما تعرضت المصادر المائية والسطحية والجوفية خلال العقود الأخيرة لتلوث فيزيائي وكيميائي وبيولوجي عال، وتردت نوعيتها وكميتها في دجلة والفرات، ما أدى إلى نقص في إمكانية استيعاب الملوثات، وانخفاض إمكانية النهرين على التنقية الذاتية. وكان الاستنتاج الرئيسي أن التلوث في العراق بلغ مستويات خطيرة جدًا، ويهدد بشكل جدي الحياة الإنسانية فيه، ومستقبل الأجيال القادمة. ما أسباب ذلك؟ يمكننا أن نجمل أهم مسببات التلوث بما يأتي من طرح مياه الفضلات البشرية غير المعالجة، أو المعالجة جزئيًا، إلى المياه السطحية مباشرة، وتكون أحيانًا ممتزجة بفضلات صناعية، وهذا يعتبر اكبر عامل تلوث في المدن الكبرى، أدى إلى أن ترتفع أعداد وأنواع البكتيريا المرضية، ومستويات النتروجين والفسفور والمواد العالقة والعناصر الثقيلة؛ ومن تزايد ما يطرح في المياه من فضلات صناعية وعناصر ضارة، من مواد متدفقة من مصانع النسيج والمدابغ والمسالخ، كالرصاص والزئبق والكادميوم والنحاس والزنك والسيانيد، وغيرها؛ ومن تسرب زيت جوفي وسطحي وغازات مختلفة من المنشآت النفطية خصوصًا في البصرة؛ ومن انبعاث المواد السامة من محطات الطاقة والمولدات إلى الماء والهواء؛ ومن فضلات المستشفيات وما تحوي من مواد مشبعة بالجراثيم الخطرة والجزئيات الكيمياوية والبلاستكية وغيرها؛ من ما يصل إلى الأنهار أو يجف في التربة من المياه الزراعية التي تستخدم فيها الأسمدة والمبيدات؛ من تسرب مياه المجاري ومياه البرك في المدن إلى مياه الشرب؛ ومن إشعاعات اليورانيوم المخضب الذي ينتقل تأثيره من التراب إلى الهواء ويتصف بالاستدامة لأزمان طويلة جدًا. ماذا اقترحتم من معالجات لذلك؟ كان أهم مقترحاتنا أن يتكون لدى كافة الجهات المعنية صورة واضحة حول الوضع البيئي والتدهور الحاصل فيه خلال السنوات الأخيرة؛ وأن تتحدد لدى أعلى السلطات في البلاد أهم الأولويات في العمل البيئي، مع برامج ومشاريع لإنجاز ما هو ملح وضروري منها بلا إبطاء؛ ووضع خطة تشمل كافة المناهج التربوية والإعلامية للتوعية البيئية؛ وإعداد القوانين والتشريعات اللازمة لمعالجة البيئة و تحسينها وصيانتها؛ وإعادة دراسة القوانين والتشريعات البيئية القديمة مع مراعاة التطورات الحضارية في مجال البيئة. لا خبرة ولا أولويات ما هي أهم معوقات معالجة التلوث في العراق؟ هي كثيرة جدًا، يقف في مقدمتها نقص الخبرة لدى الكثيرين من أصحاب القرار والمؤسسات والأشخاص المسؤولين عن هذا المجال، وغياب تصور واضح لتحديد وترتيب الأولويات البيئية، بالإضافة إلى عدم الاستفادة من الكادر المتوفر بشكل صحيح، ونقص التأهيل والتدريب. كما يتفشى الارتجال والعشوائية في التنفيذ، وتنعدم الثقة في إنجاز المشاريع بالشكل المطلوب بسبب غلبة أجواء البيروقراطية والفساد. ويضاف إلى ذلك عدم كفاءة المؤسسات المعنية بقضايا البيئة، وافتقارها للسلطات الضرورية للقيام بالتخطيط والمتابعة والتنفيذ، وعدم كفاءة القوانين والتشريعات البيئية والآليات اللازمة للتنفيذ، وضعف استجابة السلطات المحلية والمسؤولين لمتطلبات البيئية أو عدم تنفيذ التعاليم والقوانين البيئية العالمية واعتبارها قضية ثانوية، ضعف الوعي البيئي لدى قطاعات المجتمع، وعدم وجود خطط جادة للتثقيف البيئي والذي يجب أن يشمل الجميع. ولا ننسى الجانب السياسي الدولي في معضلة البيئة، المتمثل في غياب أي تعاون إقليمي، وفي اندلاع تسابق للاستحواذ على الموارد المائية في دول المنابع والمصدر يؤدي إلى أضرار فادحة في الطرف المرتبط طبيعيًا وتاريخيًا بمجارى الأنهر. كما أن غياب الأمن يحول دون معالجة قضايا البيئة المتشعبة. ما هي أهم الصعوبات التي واجهت دراساتكم في العراق؟ كثيرة، أهمها تضارب الإحصاءات والبيانات المقدمة، فهي غير واقعية في معظمها. كما أن الكثير من الفحوصات المختبرية والموقعية غير دقيقة. فالمقاييس البيئية والمختبرات ضعيفة وقديمة وهي بحاجة إلى تجديد وفق أحدث المستجدات الحضارية. ولم يكن التعاون بين السلطات ذات العلاقة، ووزارة البيئة، على المستوى المطلوب، إذ كان الحصول على المعلومات الضرورية يواجه بعراقيل وبيروقراطية شديدة، وأحيانًا بالمقاومة والرفض. فلا يزال الوعي البيئي لدى المشتغلين والعاملين ضعيف للغاية ولا خطة للتربية البيئية. رصاص في حليب الأمهات ما أهم أضرار التلوث في العراق؟ كثيرة، مفزعة حقًا. فمياه الشرب سيئة وبحاجة إلى تدارك فوري. وتقسم الأمراض الناجمة عن التلوث إلى نوعين. أمراض ذات تأثير مباشر، خلال ساعات أو أيام، وممكن أن ينتج عن كمية قليلة جدًا من الماء، واغلبها أمراض بكتيرولوجية كالأوبئة والأمراض الناتجة عن بكتيريا salmonella shigella، وأمراض طويلة الأمد ناتجة عن المعادن الثقيلة والمبيدات والملوثات الكيمياوية، وتؤدي إلى أمراض خطيرة كالسرطان أو تلف أعضاء في جهاز الهضم أو التنفس. السبب الأول لانتشار الأمراض هو مياه الشرب غير المصفاة، أو المصفاة بصورة غير كافية. فالمياه السطحية في جنوبالعراق بشكل عام غير صالحة للأنشطة البشرية المباشرة، مثل الشرب الاغتسال والسباحة! فقد وجدنا فيها زيادة كبيرة في نسبة المواد الكيمياوية، وبشكل خاص زيادة في تركيز الرصاص والزئبق، ووجدنا في الفرات الأوسط أثار الرصاص في حليب الأمهات! ما أهم الإجراءات البيئية لمعالجة هذا الوضع الخطير؟ وضعنا أمام المسؤولين في العراق أربع أولويات، وحددت الأولوية العليا على المدى القريب، ومن ابرز فقراتها توفير مياه الشرب الصالحة لجميع المواطنين بإعادة تأهيل الشبكات الموجودة، والتخطيط لأنظمة جديدة على المدى المتوسط والبعيد؛ ووضع منظومة معالجات عميقة وواسعة للصرف الصحي البلدية كتصميم منظومات جديدة وفق أحدث المقاييس العلمية والحضارية؛ ومواصلة دراسة حالة البيئة مع تحديد حجم وأسس التلوث في كافة المجالات، وإعداد القوانين والتشريعات البيئية،والتوعية البيئية، وتدريب الكوادر اللازمة لذلك. ما دور وزارة البيئة في هذا المضمار؟ يجب تعزيز دور وزارة البيئة لتنهض بالمهمة الخطيرة الملقاة على عاتقها، بصفتها المؤسسة المسؤولة بشكل مباشر عن نظافة البيئة. يجب أن تجدد خطتها البيئية لترسم على حلقات (تنفذ خلال ثلاث إلى خمس سنوات وبتكاليف معقولة) بغية تقليص تأثيرات التلوث الضارة على الصحة العامة خلال فترات قصيرة قدر الإمكان. ويؤدي أي توان في ذلك إلى التفريط في حياة البشر والثروة العامة. وقد زود فريقنا الوزارة بتقرير ختامي عما حققه من دراسات وتوصيات لتطبيقه بحسب الأهمية والضرورة.