مواضيع ذات صلة سركيس نعوم يظهر "الهريان" السياسي اكثر ما يظهر في فشل اللبنانيين في تنفيذ اتفاق الطائف الذي فتح نافذة لانتقال لبنان من حال التشرذم الطائفي الى حال الولاء الوطني. لا بل ان "الهريان" الأكبر هو انتهاء هذا الاتفاق قبل استكمال تطبيقه وانتقال اللبنانيين من الصراع الطائفي الى الصراع المذهبي. ولا يعفي اللبنانيين من مسؤوليتهم عن "الهريان" المذكور اتهام سوريا الاسد بتعمُّد الاجتزاء في تنفيذ الطائف كي تستمر في سيطرتها على البلاد. علماً انه اتهام صحيح. ولعل ابرز دليل على انتهاء "الطائف" تحدث بعض الاقطاب في لبنان عن ضرورة اقامة توازن طائفي – مذهبي جوهراً ووطني شكلاً جديداً، وذلك بغية حل المشكلة الاكثر تأجيجاً للنار في الداخل اللبناني وهي سلاح "حزب الله". علماً ان ادلة على هذا الموضوع ظهرت سابقاً، كان آخرها في فرنسا في اثناء استضافتها حواراً لبنانياً - لبنانياً فاشلاً، وذلك عندما تحدث فرنسيون عن صيغة اخرى تقسم السلطة اللبنانية بالتساوي بين الشيعة والسنة والموارنة (أو المسيحيين)، وأشاروا الى انهم سمعوها من قيادات ايرانية. "الهريان" المذكور "لاتفاق الطائف" يعني تَعطُّل مؤسسات الدولة الدستورية والادارية والقضائية والامنية والعسكرية ولا ينفي ذلك القول إنها قائمة. فرئاسة الجمهورية تقوم بمبادرات جريئة في نظر فريق لبناني ومنطقية في نظر فريق آخر. والحكومات كانت دائماً موجودة، لكنها لم تكن يوماً منتجة، لأن خلافات الداخل عطلتها، ولأن الرهان على الخارج المتنوع لانتصار اللبنانيين بعضهم على بعض اصابها بالشلل. ولا يفيد هنا تعداد مشروعات القوانين التي احالتها الحكومات او مجالس الوزراء الى مجلس النواب، ذلك انها بمعظمها بقيت مشروعات، وما نُفِّذ منها اجهضته المحاصصة والفساد والاهمال والكيدية. لذلك بقي لبنان من دون كهرباء وماء وخدمات. اما مجالس النواب فلم تكن احسن حالاً من المؤسسات الدستورية الأخرى، اذ استمرت مسرحاً لصراعات الداخل الطائفية والسياسية والمذهبية ولصراعات الخارج المماثل. وتبادلت الشعوب اللبنانية كل واحد بدوره وتبعاً لتغير موازين القوى الاتهامات بتعطيل دور المجلس في مرحلة من المراحل. اما المؤسسات الأخرى، ومع الاحترام التام للأوادم والأكفياء فيها، فإنها وبسبب تنازع "الشعوب" اللبنانية للسيطرة عليها بفئويتهم الطائفية والمذهبية، وبسبب الاوضاع الاقتصادية المتردية، اصبحت مرتعاً للفساد ولقلة الانتاج ولانعدام العدل والمساواة. وطبيعي في وضع فالت كهذا ان يطال "الهريان" الأمن في البلاد والجهات التي يفرض عليها القانون واجب فرضه. وهو طاله وطالها فعلاً من زمان ويكاد ان يجهز على الجميع. واللبنانيون يعرفون ذلك ولا ينغشّون بالمظاهر التي لا يدحضها أحد لأنها ربما تقلل بعض الشيء من التدهور الأمني او تؤخر انتشاره وتوسعه. "فالعراضات" في كل المؤسسات المعنية لم تعد تقنع أحداً، وخصوصاً في ظل العجز الفعلي عن فرض الأمن واستئصال اسباب ترديه الناجم اساساً عن امرين. الأول، قلة العدد والامكانات والتجهيزات والسلاح. أما الثاني والأهم، فهو غياب التفاهم الوطني أو الميثاق الوطني الثابت والنهائي الذي ينشئ مؤسسات دستورية وسياسية جدية عندها "أذرع" أمنية وعسكرية متماسكة قادرة على تطبيق كل قراراتها. وتوافر الأمرين لا يبدو ممكناً في المستقبل المنظور. والوارد، مع الأسف، هو ما نشاهده من "إعداد" لفتنة مذهبية في صيدا أو الجنوب قد يكون لها أبعاد اقليمية، ولفتنة مماثلة في الشمال قد تكون لها ايضاً أبعاد اقليمية. وطبيعي ان ينعكس ذلك امتداداً للفتنة الى العاصمة والجبل وبعض البقاع. في النهاية، ربما اخاف الكلام عن دخول لبنان مرحلة "الهريان" النهائي اللبنانيين مع اعترافهم بأن في مضمونه الكثير من الصحة والواقع. لكنهم، وهذا أمر طبيعي، يريدون من يطمئنهم وإن كذباً، ومن أشطر من السياسيين في ذلك، لكنه اطمئنان فارغ يجب عدم الركون اليه. كما انهم يريدون حلولاً لا مجرد وصفاً للواقع. لكن عليهم ان يطلبوا الحلول من زعاماتهم ومسؤوليهم الذين هم منقادون اليهم في شكل أعمى، ومن الدولة ومؤسساتها، وليس من الصحافة. علماً ان لا حل في الافق للبنان طالما استمرت حرب سوريا والتوتر "الربيعي" في العالم العربي. لكن غياب الحل يقتضي من اللبنانيين بل من زعاماتهم التفاهم على انتظار مرحلة الحلول بحد ادنى من الامن والاستقرار. فهل هذا الطلب مستحيل؟