واكب الإعلان عن تدشين "الائتلاف الوطني السوري" في الدوحة مؤخراً، ككيان جامع للمعارضة السياسية والمسلحة، حملة دعائية ضخمة، استهدفت تسويقه إعلامياً بأنه القادر على تنفيذ مهمة إسقاط النظام السوري، وتولي تنسيق المهام القتالية والإنسانية على الأرض، فضلاً عن الشروع في تشكيل حكومة مؤقتة، بعد فشل كيانات سابقة ك"المجلس الوطني السوري" في إحراز أية نتائج ملموسة، وسحب الدعم الأمريكي منه، لمصلحة التجمع المعارض الجديد، الذي جرى الإيحاء بأنه يحظى بدعم عربي وأممي واسع، وأن ثمة تحولاً نوعياً في التعاطي مع القوى المناوئة لنظام الأسد، ستقلب موازين القوى التي تبدو متكافئة نسبياً، وربما تميل قليلاً لمصلحة النظام الحاكم في دمشق . لم تمض سوى أيام، وبدا الراعي الأمريكي الداعم لنشأة الائتلاف الوطني غير متحمس كلية، لأن يلقي بثقله وراء التشكيل المعارض الجديد، ويمنحه الدعم السياسي والعسكري الذي يتمناه، والذي كان افتقاده سبباً رئيساً، حسب التصريحات المتواترة لقيادات المجلس الوطني، في إفشال مهمته، في سياق ردهم على الاتهامات الأمريكية لهم بالعجز والإخفاق . ولا شك أن مثل هذا الموقف الأمريكي المتردد في اتجاه حسم موقفه من المعارضة السورية يمثل عودة للمربع الأول، وضرباً لطموحات المعارضة السورية، وربما صدمة لهؤلاء الذين كانوا يراهنون على التبني الأمريكي الكبير لتحركاتهم، وفتح خزائن السلاح المتطور أمامهم، على النحو الذي كان يمكن أن يشجع أطرافاً إقليمية ودولية، على أن تحذو حذو واشنطن، فتقلب المعادلة، وتقربهم من وضعية المعارضة الليبية في السيطرة على أجزاء واسعة من التراب السوري، انتظاراً لخطوة قرار أممي بحظر جوي على سوريا، وربما تدخل عسكري من الأطلسي تتقدمه تركيا وبمشاركة دول أخرى . وربما التردد الأمريكي في الاعتراف بالائتلاف الوطني السوري كحكومة منفى أو إمدادها بالسلاح النوعي، والاكتفاء بالترحيب بهذا الكيان الجديد، وتقديم الدعم المعنوي له، يعود لعدة أسباب ذات جوانب سياسية وأمنية، من قبيل أن الاعتراف السياسي بالمعارضة كحكومة يتطلب أن تكون مسيطرة على الداخل، وتحظى بالدعم الشعبي، ومن دون سقوط العاصمة، حسب المفاهيم الجيوسياسية المتعارفة، في يد المعارضة لا يمكن الحديث عن سقوط نظام، وإيجاد بديل فعلي له، يحظى بالشرعية وله قبول دولي معلن . فضلاً عن أن رؤية الإدارة الأمريكية ذاتها للمعارضة السورية، تحمل قدراً من الريبة وعدم الثقة الكاملة فيها، وانتظار تقييمها من جديد في ضوء ما سوف تحققه من نتائج ملموسة على الأرض، تجعل تقديرات الموقف تؤشر أنها تتفوق على النظام، ولا توجد ممانعة شعبية واسعة لها بالداخل، خاصة أنه حتى بعد اجتماع الدوحة، لا تزال فصائل معارضة لها رؤية أخرى لا تنسجم مع المشروع الأمريكي، وترفض التدخل الخارجي، وتبدي مرونة في التعاطي مع الأطراف المؤيدة للنظام السوري كروسيا وإيران، ولا تعارض دعوتهم للحوار مع النظام، فضلاً عن الانفتاح الإيراني على بعض قوى المعارضة بمن فيهم الإخوان المسلمون الذين يمثلون طرفاً مهماً في الصراع بالداخل والمشاركون في الائتلاف المعارض الجديد، وبحسب ما كشف عنه القيادي في "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي السورية" هيثم منّاع لصحيفة "لافيجارو" الفرنسية، فإنه اجتمع في جنيف مع نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، فضلاً عن محادثات إيرانية جرت مع مسؤول في "جماعة الإخوان المسلمين"، إضافة إلى عقد طهران مؤتمراً على أراضيها قبل أيام لبعض قوى المعارضة مع شخصيات حكومية سورية تحت عنوان "الحوار الوطني"، وتحذيرها الدول الداعمة للمعارضة من مغبة تسليحها، وتجديد دعوتها للتغيير في سوريا عبر صناديق الانتخاب . ولايغيب عن تقدير الموقف الأمريكي بالتأكيد، المعطي الأمني أو بالأحرى المخاوف من سقوط هذه الأسلحة المتقدمة في أيدي جماعات إرهابية خاصة، مع توارد معلومات استخباراتية عن اتساع نطاق عملها في سوريا، وتزايد أعداد العناصر المتطرفة من دول عربية عدة، ومن أفغانستان والصومال، فضلاً عن التصارع، بحسب بعض التقارير، بين جماعة الإخوان المسلمين والجيش الحر على شحنات الأسلحة المهربة عبر تركيا، التي بعضها قادم من ليبيا . وثمة بعد إقليمي ودولي في المشهد، إذ إن ثمة معارضة عربية برزت في اجتماع اللجنة العربية المعنية بسوريا، وفي الاجتماع العربي الأوروبي المشترك، تصدرتها دول جوار معنية بشكل مباشر بتطورات الأحداث في سوريا كلبنان والعراق، إلى جانب الجزائر، ما جعل الموقف العربي الذي سعت قطر إلى قيادته باتجاه الاعتراف بالمعارضة السورية كبديل عن النظام السوري، منقسماً، وتراجع إلى درجة اعتبار الائتلاف السوري المعارض محاوراً رئيسياً فحسب ومعبراً عن تطلعات المعارضة السورية، وهو ما سار في نهجه التوجه الأوروبي باستثناء فرنسا التي لا يبدو موقفها منفرداً كافياً لإعطاء شرعية كاملة للكيان المعارض الجديد . علاوة على تشدد روسيا من جديد، والإصرار في اجتماع وزير خارجيتها سيرجي لافروف نهاية الأسبوع الماضي مع نظرائه بمجلس التعاون الخليجي بالرياض على أن التحرك الصحيح يكون باتجاه تنفيذ استحقاقات "بيان جنيف" بوقف نزيف الدم، والعمل على تشكيل حكومة انتقالية من النظام والمعارضة، وليس أي شيء آخر تقوده معارضة "متطرفة"، حسب وصفه، لا تمثل كل الشعب السوري، مع تحذير موسكو الدول الداعمة للائتلاف السوري المعارض الجديد من "انتهاك القانون الدولي" إذا قامت بتزويد المقاتلين السوريين بها . وترافق ذلك مع الرفض الصيني الذي أعلنته بشكل غير مباشر في سياق التعليق الرسمي على تشكيل الائتلاف السوري المعارض والتدخل الأمريكي في صياغته، وتحديد أجندته بالقول إن "مصير سوريا يجب أن يقرره السوريون"، ولفت النظر مجدداً إلى مبادرتها الأخيرة لتسوية الصراع . ومن الواضح أن واشنطن لا تريد في الوقت الراهن التورط الكامل في المستنقع السوري، وتريد الاكتفاء بالتوجيه عن بعد، والتدخل فقط في الوقت المناسب حين تكون الفرصة سانحة لجني الثمار، ربما لأن الإدارة الأمريكية في ظل الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما تحتاج إلى بعض الوقت لترتيب أوراقها من جديد، وإعطاء قدر من الأولوية للداخل، لصعوبة توفير الموارد المالية الضخمة التي تتطلبها عمليات الدعم المسلح، مع المشكلات الاقتصادية الداخلية التي تعانيها واشنطن حالياً، وفيما عدا ذلك تترك المجال لحلفائها الإقليميين أن يلعبوا الدور الأبرز في توجيه مسار حركة المعارضة وتوفير الإسناد المتاح لها، خاصة قطر التي باتت تتعامل مع الأزمة السورية كشأن داخلي قطري، وتبدي استعداداً لأن تقدم أقصى ما لديها من دعم مالي وسياسي للقوى المناوئة للأسد بغية إسقاطه، ويليها تركيا التي تتأرجح مواقفها باستمرار بين الحل السياسي والخيار العسكري، سعياً وراء ضمان عدم تهديد مصالحها مستقبلاً، حيث ما أن تم الإعلان عن تشكيل الائتلاف المعارض الجديد حتى تحولت عن الميل للموقف الروسي والصيني المنحاز لخيار التسوية السياسية التي لا تستبعد نظام الأسد من المعادلة السياسية الجديدة، والانحياز من جديد لأحد طرفي الصراع، بل وحث دول العالم أن تدعم بقوة المعارضة المسلحة ولا تتقاعس عن تلك المهمة، واعتبرت الائتلاف السوري الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري . وفي ذات الوقت يبدو أن ثمة مساحة لدور أوروبي يتهيأ للبروز تتقدمه باريس التي بادرت إلى الاعتراف الكامل بالائتلاف السوري المعارض، واعتماد سفير يمثل المعارضة لديها، والسعي لتقديم دعم على صعيد التسلح، بعد محاولة إقناع دول الاتحاد الأوروبي بالتراجع عن قرار حظر توريد السلاح إلى كل من طرفي الصراع في سوريا . ويبدو أن الموقف الفرنسي المتقدم، إلى جانب دور تركياوقطر، يدخل أيضاً في إطار لعبة توزيع الأدوار أمريكياً، خاصة أن لفرنسا علاقات تاريخية بسوريا، حيث كانت المستعمر القديم لها، ولديها معرفة دقيقة بالواقع المجتمعي السوري، وهذا يفيد في مرحلة تهيئة المسرح السياسي، وربما العسكري، ورسم خريطة واضحة لإمكانات وتوقيتات التدخل، فضلاً عن دخول طوكيو على الخط، وإبداء استعداد اليابان لتقديم دعم على الصعيد الإنساني، واستضافة "مؤتمر أصدقاء سوريا" نهاية الشهر الجاري، لبحث كيفية تقديم المساعدات للسوريين، فضلاً عن تشديد العقوبات على دمشق . وفي هذه الأثناء، بدت مبادرة المبعوث الأممي والعربي المشترك الأخضر الإبراهيمي متراجعة وغير منظورة الأثر، ولا معلومة خطواتها القادمة، بعد الحراك الذي شهدته، كما لو كان اجتماع الدوحة، وما بعده من اجتماعات في القاهرة قد جمّد حركتها لبعض الوقت، وخصم من زخمها الذي كان يتسارع، رغم الحديث العربي والأوروبي عن دعم جهود الإبراهيمي، أو ربما حسب قراءة بعض المراقبين أنها جاءت فحسب لملء الفراغ أثناء الانشغال الأمريكي باستحقاقها الانتخابي، ثم استردت واشنطن عبر حلفائها خاصة الدوحةوأنقرة زمام الحركة . وفي ظل هذه المعطيات، بقي التحدي واضحاً أمام المعارضة المتبلورة في كيان جديد، ومحاولة البرهنة على استحقاقها للدعم، من خلال تصعيد العمليات القتالية، ومحاولة الاستيلاء على بعض القرى والبلدات الحدودية، خاصة الملاصقة لتركيا، أو السيطرة على أجزاء من هضبة الجولان المحتل وتسخين هذه الجبهة، وربما كان الهدف ليس فقط إبراز أنهم يحرزون تقدماً، وإنما قد تكون محاولة لتوريط كل من أنقرة وتل أبيب في مواجهات عسكرية مع النظام السوري، تسمح بتدخل دولي سريع، وتعجل بإسقاط النظام، فيما بدأت المعارضة السياسية ممثلة في قيادات الائتلاف السوري بممارسة ضغوط إعلامية عبر اتهام دول العالم بأنها غير جادة في إطاحة النظام السوري، وأنها لا تقدم المساعدات الكافية لها، خاصة على صعيد التسلح النوعي، وأنها بتوجهها هذا تدعم نظام الأسد، وتشجع أيضاً على نمو نشاط الجماعات المتطرفة في سوريا التي تدعي التخوف منها . وقد شنت نائبة الائتلاف السوري المعارض، سهير الأتاسي، هجوماً حاداً في هذا الصدد مؤخراً، بغية استنفار دول العالم المترددة في الدعم المسلح للمعارضة السورية بالقول: "إن الكرة الآن بملعب المجتمع الدولي، فلم يعد هناك أي مبرر للقول إننا سننتظر أن نرى مدى فاعلية كيان المعارضة وكأنه بحالة اختبار، فنحن الآن نضعهم هم بحالة اختبار" . وما بين لعبة الشد والجذب بين الدول الإقليمية والدولية من جانب، والمعارضة السورية من جانب آخر، لا تزال وضعية "ائتلاف الدوحة" غير واضحة المعالم، ويبدو أن ثمة حاجة إلى بعض الوقت لحسم ما إذا كان بإمكان الكيان المعارض الجديد أن يحقق اختراقات واضحة، ويقلب موازين القوى في الداخل ويحصد الاعتراف الدولي الواسع والدعم السياسي والعسكري، أم إنه سيكون له ذات مصير "مجلس اسطنبول"، مجرد واجهة لمعارضة متباينة ومتصارعة وعاجزة عن الفعل، خاصة أن الائتلاف الوليد مازال يتبنى نفس الآليات وذات الخطاب، فيما لم يطرأ على المشهد تحولات نوعية في معادلة القوى على صعيد الداخل أو الخارج، وأنما حركة في ذات المكان . [email protected]