الكلاسيكية أو الاتباعية : عندما نجمع سقط الحصاد بقلم د. يسري عبد الغني عبد الله باحث وخبير في التراث الثقافي [email protected] عنوان المراسلات : 14 شارع محمد شاكر / الحلمية الجديدة / بريد القلعة (11411) / القاهرة / مصر . هاتف : 0223176705 محمول : 01114656533 الاتباعية في الأدب والفن هو مذهب المحاكين لمذاهب المتقدمين ، وتسمى أيضاً الكلاسيكية . ويقوم هذا المذهب الأدبي على محاكاة الأقدمين من اليونان والرومان ، وعلى اختيار النماذج الأدبية التي يتيسر محاكاتها أو تقليدها من هذا التراث ، مع مراعاة القدرة أو المقدرة على التميز بين الجيد والرديء في هذه المحاكاة . وتكون عملية الانتقاء أو التميز هذه بأن ينتخب منها الشاعر أو الأديب ما يتناسب مع عصره ، و بذلك يستطيع المبدع أن يحافظ على أصالته الفنية . يقول (لابروبير) : كل شيء قد قيل ، وقد أتينا بعد فوات الأوان منذ ما يزيد على 7000سنة ، حين كان يوجد إناس ومفكرون , ولم يبقى لنا إلا أن نلتقط سقط الحصاد على إثر ما جمعه الأقدمون والتابعون من المحدثين . ويقول أيضاً : لن يستطاع بلوغ حد الكمال في الكتابة ، ولن يستطاع مع توافر القدرة ، التفوق على الأقدمين إلا بمحاكاتهم . كما يقوم المذهب الكلاسيكي على جعل العقل الإنساني أساساً للذوق السليم وصواب الحكم ، وبهذا يسير الأديب في ضوء العادات والتقاليد والأعراف التي تسود المجتمع ، ولا يحق له الخروج عليها بأي حال من الأحوال . والشعر عند الكلاسيكيين هو لغة العقل ، فلا مجال فيه للنزعة الفردية أو الذاتية أو الخيال الشخصي . وعلى الأديب أن يظل في دائرة المحاكاة باسم العقل ، ولذلك عظم الكلاسيكيون من أفكار السابقين لهم كأرسطو وغيره . والشعر المسرحي عندهم هو لغة العقل ، ولذلك ضعف الشعر الغنائي بأنواعه المختلفة عند الكلاسيكيين ، لأنه يعتمد على الخيال ، والخيال في رأيهم غريزة عمياء ، ولهذا قوي الشعر المسرحي وضعف التعبير الذاتي الفردي ، وبرز الاتجاه إلى الانضواء تحت لواء الطبقة الأرستقراطية ، و تمجيد القيم والتقاليد السائدة . هذا ، وقد ظهرت النزعة الكلاسيكية أولاً عند الإيطاليين ، وكان ذلك نتيجة مباشرة لترجمة بعض كتب اليونان ، ككتاب (فن الشعر) لأرسطو ، و (فن الشعر) لهوراس . كما كان ذلك أيضاً نتيجة لبعض المؤلفات التي ظهرت مقلدة لمؤلفات اليونانيين ، مثل : شرح كتاب أرسطو في فن الشعر ، الذي ألفه (روبرت لو) ونشر سنة 1548 م ، وكتاب فن الشعر الذي ألفه / مينتو رنو ، وغير ذلك مما ألف من كتب تقوم على بيان غاية الشعر ومبادئه التي تعود أو ترتد إلى المحاكاة لأدباء ومفكري اليونان . ومع ذلك فإن هذه المبادئ الإيطالية التي استقاها الإيطاليون من تراث اليونان القدماء ، كانت خطوة تلتها خطوات أخرى . فقد أسهمت فرنسا في تجديد هذا المذهب ، وإشاعة مبادئه ، وكان ذلك في القرن السابع عشر الميلادي ، حين ألف (بوالو) الفرنسي كتاباً عنوانه فن الشعر ، سنة 1674 م ، وكانت الدراسات الفرنسية أساساً لنمو المذهب الكلاسيكي في انجلتراوألمانيا . ففي انجلترا ترجم الشاعر / جون أولد هام (1653 م 1673 م ) ، كتاب بوالو الفرنسي (فن الشعر) ، كما ظهر أثره في كتاب (جون دريدن) ، الذي عاش بين عامي 1631 م و 1700 م ، وغيره من الأدباء والنقاد الإنجليز ، كما ظهر أثر ذلك جلياً في مسرحية (دريدن) عن الملكة كليوباترا . وفي ألمانيا ظهرت كتب ومؤلفات في الشعر ونقده تم نشر بعضها عام 1730 م ، كما ظهر ذلك في رسالة (جوتشهايد) الذي عاش بين عامي 1700 م و 1776 م . ونذكر هنا أن الشاعر / لافونتين كتب كوميديا عنوانها (الأغا) التي قلد فيها الشاعر اللاتيني / تيرنس ، كما أنه ألف مأساة لم يتمها هي (صوت إيخليوس) متأثرة بالمسرح اليوناني القديم ، كما كتب رواية مطولة صاغ بعض فقراتها شعراً أطلق عليها اسم (مغامرات بايشي أو بايسيشي) ، حيث اعتمد فيها على أسطورة من الأساطير اليونانية القديمة ، بطلة الأسطورة فتاة رائعة الجمال ، أحبها إله الحب ، وانتهى الأمر باقترانهما . وبمناسبة الحديث عن الكلاسيكية ، لابد لنا أن نذكر مجال الدراسات الكلاسيكية ، وهو مجال مهم وخصب ، فيما يتعلق بفن مثل فن المسرح ، وعلى سبيل المثال نشير إلى دراسة الدكتور / أحمد عتمان التي عنوانها (المصادر الكلاسيكية لمسرح توفيق الحكيم دراسة مقارنة) الصادرة عن هيئة الكتاب المصرية ،بالقاهرة ، سنة 1978 م ، ويحتوي على ملخص باللغة الفرنسية ، وهذه الدراسة تنقسم إلى أبواب أربعة ، يتناول الباب الأول (بجماليون أو معبد الذات بين الأصل الأسطوري والشكل الدرامي ) ، ويتناول الباب الثاني (مأساة الملك أوديب بين المسرح الحي والبرج العاجي) ، ويتناول الباب الثالث (براكسا أو الكوميديا السياسية بين عصرين) ، ثم تختم بالباب الرابع الذي يضع له عنوان (الأصل الكلاسيكي للمأساوية في مسرح الحكيم ) . وهذه الدراسة تمثل ظاهرة التوجه للتراث اليوناني نثراُ ومسرحاً ونقداً وفكراً ، وهو توجه لم يبدأ في العصر الراهن ، ولكنه قديم منذ عصور الأدب العربي الأولى . وهنا نذكر دراسة مهمة للدكتور / إحسان عباس حول (المؤثرات اليونانية في الأدب العباسي) ، ومن هنا فإن أهمية هذه النوعية من الدراسات أنها توضح جوانب التأثر بالفكر والثقافة والأدب اليوناني القديم في أدبنا القديم أو الحديث . على كل حال فقد أخذت الكلاسيكية في الاكتمال , وظلت كذلك إلى أن ظهرت الرومانسية أو الإبداعية . ويحلو لبعض مؤرخي الأدب العربي الحديث أن يجعل من الشاعر المصري / محمود سامي البارودي (1838 – 1904 م) ، رائداً للكلاسيكية العربية الجديدة ، أو لمدرسة الإحياء والبعث ، أو للمدرسة الاتباعية ، واضعين في الاعتبار الدور الذي قام به البارودي في إحياء الشعر العربي من مرقده الطويل الذي رقد فيه في عصور الضعف والانحطاط الأدبي قبل عصر النهضة الأدبية الحديثة ، أي في العصرين المملوكي والعثماني . لقد ارتفع صوت البارودي وحده بين الشعراء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، رصينًا قويًا في عباراته وألفاظه ، متينًا في أساليبه ، صافيًا في أخيلته ، شريفًا في معانيه ، مشرقًا في ديباجته ، جزلاً في تراكيبه ، واستمع معاصروه إليه ، فرأوه يصوغ شعرًا غير ما ألفوه من نظم على مدى ما يزيد عن أكثر من ثلاثة قرون مضت . لقد كان صنيع البارودي مع الشعر صنيع من أعاد الحياة لمن سلبها ، ورد النبض لمن فقده ، وذلك أنه ارتقى بالشعر وصعد به من قاع منحدر إلى أعلاه . ارتقى بالكلمة والعبارة من الضعف والابتذال إلى صحة التركيب وقوته ، وصفاء السليقة ونقائها ، والعناية بالأسلوب وجماله . ويؤكد النقاد على أن البارودي كان رائداً لهذه المدرسة أو لهذا الاتجاه الذي سيطر على الذوق العربي قرابة قرن من الزمان ، وما يزال لها أنصارها حتى يومنا هذا . وقد سار على درب البارودي : إسماعيل صبري ، وعائشة التيمورية ، وأحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم ، وولي الدين يكن ، ومحمد عبد المطلب , وأحمد محرم ، وعلى الغاياتي من مصر . ومحمد رضا الشيبيتي ، عبد المحسن الكاظمي ، وجميل صدقي الزهاوي ، ومعروف الرصافي ، من العراق . وشكيب أرسلان من سورية ، وغيرهم من جيلهم بالبلاد العربية المختلفة بالمشرق والمغرب ، مما يصعب حصرهم . ثم أعقب هذا الجيل الأول من الكلاسيكيين العرب من الأجيال التالية : على الجارم ، ومحمد الأسمر ، وعزيز أباظة ، ومحمود غنيم ، وغيرهم من مصر . وكذلك : صقر الشبيب من الكويت ، وابن عثيمين الأب والابن من السعودية ، وغيرهم من شعراء العرب الذين مشوا في نفس هذا الاتجاه . والله ولي التوفيق ،،، يسري عبد الغني عبد الله