النص : قل للتي عَبِقتْ رُبايَ بنورها رِقِّي لحالِ الصبِّ يا ... يا الغاليةْ ما عاد في دنيايَ فجرٌ مشرقٌ يجتثُّ من أفُقي اللياليْ الداجيةْ لم تَسْرِ لي كفٌ لترحمَ دمعتي إلا انثنى طاغٍ لقَطْعِ الحانيةْ رُوْحي ممزقةٌ .. و يأسي شاهقٌ و براءتي كَلْمى .. و دنيا فانيةْ يبتزُّني عشقي .. فيعصِر مهجتي فأرى دمائي نبعَ عينٍ جاريةْ عيني مسهدةٌ .. و دمعي حارقٌ جفني .. و أحلامي نجومٌ عاليةْ ............. حلمٌ تراءى لي .. يهدهدُ غربتي و يَفُكُّ عن نحري حبالا قاسيةْ طيفُ الحبيبةِ في السماء محدّثي أشكو لها حالي .. ترِقُّ لحاليهْ تبكي بآفاقي .. كأن دموعَها مطرٌ يُطَهِّر لي حياتي الباغيةْ و تقول لي يا " أنتَ " .. رُوْحُك موئلي و حنانُ قلبك تشتهيه جراحِيَهْ و نثرت حبَّك كي تكفكفَ دمعتي فأممت دفأك في الليالي الشاتيةْ فأقول يا رَوْحي ، و بسمةَ ليلتى تعويذةَ المنفى ، و نبضَ القافيةْ تبكين في " مصرَ الحزينةِ " دمعةً فأرى " الرياضَ " كأنّ غيمًا داميةْ ............ و أُفيقُ من حُلْمِيْ .. أكابدُ غربتي و أنينُ قلبي ليس يرحمُ شاكيَهْ وتطيرُ رُوْحي في السماء كغيمةٍ بفيوضِ دمعٍ من لظايَ الحاميةْ مُزْنٌ محملةٌ بفيضِ مدامعي تجثو بعرش اللهِ ، تُفْرِغُ ما بِيَهْ ............ سَطَّرْتُ آيَ الحبِّ في قلبي بما أسلفتُ من شوقِ الليالي الخاليةْ ليلانِ .. ليلُ جوىً ، و ليلةُ غربةٍ يتنازعان القلبَ عندَ الهاويةْ ............ حين الْتجأتُ إليكِ .. خِلتك موئلي و رباك مزهرةً .. و كأسَك ساقيةْ قد كنت أحسب إذ ترنَّمت الهوى أني سأرتع في قطوفٍ دانيةْ ما كنت أحسب أن عِشقك .. ملؤه زيفٌ و أوجاعٌ .. و كيدُ زبانيةْ ............ حتى متى عيُّ الذئاب مؤرقٌ ليلَ الغرام .. أليس يخشى راعيه .. ؟ أم باع راعيه شجاعة سيفه من أجل أن ترضى الذئاب لثانية .. ؟؟ الآن أنعي الحب ، عشرٌ قد مضت نادمت حبي ، و احترقت لياليهْ الآن .. أنتظرُ الرحيلَ .. معانقًا دمعًا يؤجِّجُ بيْ جراحي الداميةْ لا يستوي قلبٌ ، و دمعة عاشقٍ لو كان قلبُك .. ما أفَضْتُ بُكائيهْ إن قراءة النص الإبداعي أصعب بكثير مما نتخيل , فعلى الناقد أن يتقمص شخصية المبدع , ويعيش عالمه , ليدخل إلى أغواره فيلتقط أكثر الصور ويعرضها في شكل نثري لا يزين القصيدة ولكنه يزيدها توهجا خافتا يساعد المتلقي إلى الدخول في عوالم النص. والناقد عندما يبدأ في قراءة نص معين فإنه لا يحاول إنتاجه من جديد ولكنه يحاول استكشاف العوالم الخيالية ليحكم عليها حكما موضوعيا نابعا من قدرة الشاعر على السيطرة على موضوع نصه. وقصيدة " الغالية " للشاعر أحمد خطاب .. تأخذنا إلى عالم خيالي صنعه الشاعر بنفسه ليعيش فيه هو , وينقله لنا بخياله الواسع عبر أوتار إيقاعية غاية في الروعة والإحكام . وتتكون قصيدة " الغالية " من ستة وعشرين بيتا , وهي قصيدة عمودية نظمها المبدع على وحدة بحر الكامل التام ( متفاعلن متفاعلن متفاعلن ) , وقد استخدم فيه بعض الزحافات التي تكسر حدة التكرار لهذه البحور الصافية. ويتميز بحر الكامل بطول تفعيلاته التي تستغرق الكثير من الأنفاس فتتوه فيها تباريح التعب والألم . أما عن قافية القصيدة فقد اختارها الشاعر ساكنة لتكون أكثر تعبيرا عن حاله الساكن ظاهريا المضطرب داخليا؛ فبين زحافات تكسر حدة الرتابة والتكرار داخل التفعيلات المتكررة , وسكون في القافية (النهاية) تخرج الدلالة الواضحة الجلية على السكون الذي يتصنعه المحب أماكن الناس مع غليان يسير داخل قلبه الكليم. فالإيقاع يقوم بإنتاج الدلالة ولكنها دلالة من نوع خاص تظهرها الحركات والسكنات داخل القصيدة. أما عن لغة القصيدة فإن الحديث يطول ولا يمكن لقراءة سريعة كهذه أن تستغرق كل ما جاء بها. ولكننا سنقطف بعض الدلالات على ما نقول. أولا : يأتي المعجم اللفظي للقصيدة ليعبر عن مدى التعب الذي يعانيه الشاعر في حبه الراحل واقعيا, الموجود خياليا , وقد قلت الراحل واقعيا : لما يظهر في القصيدة من مظاهر علنية توحي بذهاب هذا الحب وانتهائه فعليا , ويكفي هذا البيت كدليل على ما أقول : ما عاد في دنيايَ فجرٌ مشرقٌ ......... يجتثُّ من أفُقي اللياليْ الداجيةْ فنفي الشاعر لوجود الفجر المشرق , واستمرار الليالي المظلمة معه دليل على انتهاء هذا الحب واقعيا . وقد قلت الموجود خياليا لما يظهر أيضا في القصيدة من أدلة على ذلك ويكفي هذا البيت : ليلانِ .. ليلُ جوىً ، و ليلةُ غربةٍ .......... يتنازعان القلبَ عندَ الهاويةْ فالفعل المضارع يدل على استمرار مرار هذا الحب وتأثيره على الشاعر المحب . أما عن المعجم فقد جاءت أكثر من لفظة لتظهر مدى الألم والحسرة والتعب, ومنها : ( الصب دمعتي ممزقة مسهدة تبكي حارقة أكابد أنين أوجاع زيف مؤرق احترقت جراحي الدامية ). فما بين حزن وألم وأنين وأوجاع وتمزيق وجروح ودموع ودماء وحرقة يعيش الشاعر في ليل مظلم لا ينتهي أبدا. ثانيا : من الدلالات التي يعطيها معجم القصيدة أيضا حيرة الشاعر , فمرة يظهر وكأنه لا يرى لمحبوبه أي فضل , بل هي صورة للزيف والخداع : حين الْتجأتُ إليكِ .. خِلتك موئلي ..... و رباك مزهرةً .. و كأسَك ساقيةْ قد كنت أحسب إذ ترنَّمت الهوى ...... أني سأرتع في قطوفٍ دانيةْ ما كنت أحسب أن عِشقك .. ملؤه ...... زيفٌ و أوجاعٌ .. و كيدُ زبانيةْ ومرة أخرى يراها الملاك البريء الذي يطل عليه في صورة طيف فيحدثه ويسهر معه الليل: طيفُ الحبيبةِ في السماء محدّثي ...... أشكو لها حالي .. ترِقُّ لحاليهْ تبكي بآفاقي .. كأن دموعَها ........ مطرٌ يُطَهِّر لي حياتي الباغيةْ و تقول لي يا " أنتَ " .. رُوْحُك موئلي ..... و حنانُ قلبك تشتهيه جراحِيَهْ فهذه الحيرة هي حيرة بين قلب يحب ويتلذذ بالتعب والألم , وعقل لا يقبل هذا التعب. هذا بالنسبة للمعجم اللفظي ، أما بالنسبة للتراكيب والأساليب فالقصيدة فالشاعر ينوع في القصيدة بين الجمل فنجد الجمل الاسمية التي تدل على الثبات , وهذه الجمل تظهر في الحالات التي تدل على اليأس والتسليم بالأمر الواقع ومن أدلة ذلك قول الشاعر : رُوْحي ممزقةٌ .. و يأسي شاهقٌ ....... و براءتي كَلْمى .. و دنيا فانيةْ فقد استخدم الشاعر أربع جمل اسمية تدل على التسليم التام للألم والتعب , وفي بيت آخر يقول : عيني مسهدةٌ .. و دمعي حارقٌ ....... جفني .. و أحلامي نجومٌ عاليةْ فحالة التسليم والثبات تناسبها الجملة الفعلية التي توحي بذلك وتعطي الإحساس للمتلقي بخضوع المحب لما يحدث. أما الجملة الفعلية التي تدل على التغير والتبدل كانت هي النمط السائد في القصيد حيث غطت الأفعال على معظم أبيات القصيدة , وقد بدأ الشاعر القصيدة بفعل الأمر " قل " وفي الشطر الثاني " رقي " وهي أفعال أمر تدل على التمني والرجاء . ويأتي الفعل المضارع بغزارة ليدلل على استمرارية الحب مع الشاعر , ويظهر ذلك في قوله: يبتزُّني عشقي .. فيعصِر مهجتي ..... فأرى دمائي نبعَ عينٍ جاريةْ فقد جاء الفعل المضارع ثلاث مرات في البيت ليدلل على استمرارية معاناة الشاعر . أما الفعل الماضي فقد جاء بصورة أقل من الفعل المضارع وجاء ليعطي دلالته الحقيقة على الانتهاء, كما يعطي دلالة أخرى على التسليم , فيقول الشاعر : سَطَّرْتُ آيَ الحبِّ في قلبي بما ...... أسلفتُ من شوقِ الليالي الخاليةْ فقد انتهى المحب من تسطير حبه الأبدي وهو مسلم بذلك تماما ويريدنا أن نسلم معه أيضا. وأما الأساليب فقد تعددت أيضا فهو يستخدم الأمر تارة " رقي " والنفي تارة " ما عاد " والاستفهام تارات أخرى " أليس يخشى راعيه ؟ " وكل هذه الأساليب تعطي حركية للنص , فتجعل المتلقي مشاركا إيجابيا يتفاعل مع النص , فهي تخرج النص من حالة الغنائية إلى حالة التفاعلية التي ينشدها المتلقي قبل المبدع . أما عن الصورة فحدث ولا حرج , فقد أبدع واستبدع هذا المبدع , ما أجملها وما أروعها من صور غاية في الروعة والجمال . وبعيدا عن نمطية النقد في استخراج الصور ما بين بيانية ورمزية وإيحائية يقف الناقد عاجزا عن الدخول في تفسير أي صورة خشية أن يفسد ما بها من جمال ؛ حيث تتراقص الصورة معبرة عن نفسها ولا تحتاج إلى من يزينها بأي شيء , ففي كل بيت صورة تنم عن فنية غاية في الروعة والإبداع . وتعبر هذه الصور عن ثقافة الشاعر الدينية فيتناص مع القرآن الكريم ليزيد من قوة نصه , وليؤسس لعلاقة جيدة بين القرآن ونصه الإبداعي , فيقول الشاعر : سَطَّرْتُ آيَ الحبِّ في قلبي بما ...... أسلفتُ من شوقِ الليالي الخاليةْ فهو يستدعي النص القرآني " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ " ( الحاقة :24 ) . ويقول في بيت آخر : قد كنت أحسب إذ ترنَّمت الهوى .......أني سأرتع في قطوفٍ دانيةْ ويتناص فيه مع آية من نفس السورة " قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ " ( الحاقة :23 ) ، وهكذا فإن الشاعر يقيم تعانقا مع القرآن ليضيف إلى نصه قوة على قوته ومتانة على متانته . وقد نوع الشاعر في صوره فاستخدم في رسم صوره " الحوار " الذي بقوم على تعدد الاصوات ويضيف للنص درامية تمنحه بعض الحركة . وهذا الكلام لا يساوي قطرة واحدة من إبداعات النص , إنها مجرد قراءة عابرة تفرضها النصوص على الناقد , فيحاول أن يشتم بعد عطورها , فيصاب بالحيرة أي العطور يختار , أعلم جيدا أنني قد قصرت في قراءة النص , ولكن ليغفر لي النص عجزي عن الوقوف على كل جوانبه ربما لم يسعفني الوقت ولكني أعدك أيها النص بقراءة مستفيضة حين يسمح سيدنا الوقت بذلك. ... معوض زهران باحث بدرجة الماجستير بكلية دار العلوم جامعة الفيوم