المصارحة وعرض الحقيقة أمر يتحاشاه كثيرون كأن بينه وبينهم حاجزًا عاليًّا قشرته وهم وداخله فراغ. إذا أردت النزول في بركة ماء توصلك إلى طرفها الآخر أمامك، وتوهمت أنها باردة فسيمنعك وهمك من خطوة دخول البركة وتحسها مستحيلة، فتحجم وتتعب في بلوغ الطرف الآخر بطرق ملتوية طويلة شائكة، لكنك لو حزمت ومددت رجلك خطوة واحدة لصرت في الماء ووصلت بسرعة، ووفرت الكثير. الكلمة الصادقة في الحديث هي تلك الخطوة الواحدة الصغيرة. حسبك كذبة أولى تستصغرها وتلقيها أو تجيب بها على استفسار ما، ستلحقها بكذبة تبررها ثم بثالثة فرابعة، ويتوالى الكذب ويتراكم معه قلق وضيق وخوف يتعاظمون أشد ممّا يتعاظمون مع كلمة الصدق الواحدة لأن سلسلة الكذب تطول! هذا هو الحال الذي يكتب فيه المرء عند الله كذَّابًا كما جاء في الحديث المعروف. إن كثر الكذب هان على صاحبه، ثم اعتاد عليه ثم صار ضرورة حتى يصل إلى تصديق نفسه، وأن كلامه حق لا نقاش فيه. ومع ازدياد الكذب يؤلف صاحبه لنفسه الأعذار، إلى أن يستمرئ التلفيق والزيادة والانتقاص والمراوغة فيكتسب الثرثرة والنفاق، ثم يبدأ في الدفاع عن كذبه بالأيمان الغليظة، وإلى حد مخاصمة مَن لا يصدقه! الكذَّاب لا تطمئن لأقواله وقصصه وآرائه ونقله، ولا تأخذ منه علمًا، ولا تثق بعمله؛ لأنه ببساطة في منزلة الذي يغش في بضاعته. إن كنت ترى نفسك شجاعًا أمينًا مؤمنًا لا تخاف المخلوق، فابدأ بألاّ يكون في كلامك كذب وتمويه وتلوين مهما كان وهمك لسببه، بعدها تعش هانئًا بشخصية واضحة. في ثانية واحدة، وفي أي مرحلة كنت: الرجوع الى الحق خير من التمادي في الباطل، قاعدة صلبة خالدة. ليس كل واحد يقبل الحقيقة؟ صحيح لكن هذا لا يبرر الكذب حتى مع الذين يقبلون بالحقيقة، وكما يُقال إن في المعاريض مندوحة عن الكذب، أي أن في التلميح اللطيف، أو الإشارة، أو الموقف كفاية وخيرًا وغنى عن التصريح بالكذب. ثم إن مَن يألف أمانتك وصدقك فسيرضى لرضا الخالق العظيم. أقبح الكذب وأوضحه ما يأتي ممّن لا يعرف جهله، ويظن أن عنده علمًا، وخاصة بوهم منصب وجاه ومال. كم نعاني من أمثال هذا، وكم يسيئون في حياتنا! فارس محمد عمر - المدينة المنورة