كيف نؤرخ للثقافة العربية؟ سؤال يقفز إلى الذهن في أعقاب تصفح كتاب "الثقافة العربية في القرن العشرين/ حصيلة أولية"، الكتاب يقع في 1455 صفحة من القطع الكبير ويتضمن 198 مقالة ل 63 باحثاً من مختلف أرجاء الوطن العربي، وتندرج مقالاته/ أبحاثه في قسمين: الحصيلة الفكرية، والحصيلة الأدبية والفنية . في مقدمة الكتاب يلفت المشرف عليه د . عبدالإله بلقزيز النظر إلى مسألتين في غاية الأهمية، تتعلق الأولى بصعوبة التأريخ للثقافة العربية خلال قرن، حيث يتطلب الأمر بيئة علمية وأدوات وبُنى تحتية ثقافية من جامعات ومراكز بحث ومؤسسات . . إلخ، إضافة إلى موسوعات وأطالس وأنطولوجيات معرفية، أما المسألة الثانية فتتمثل في المقارنة التي يجريها بلقزيز بين الفقر الواضح في النصوص الارتكازية الراهنة والتي تقدم نظرة بانورامية لثقافتنا مقارنة بما أنجزه أسلافنا من أمثال الفراهيدي وابن النديم والجاحظ وابن عبد ربه وحتى آباء النهضة العربية: الشدياق والبستاني وجرجي زيدان، مروراً بإسهامات المستشرفين، فكتاب "تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان يتفوق على كل المكتوب في العربية ويرصد تاريخنا الأدبي . حاول الكتاب أن يتجاوز انتقادات عدة توجه له أو حتى استفهام ينتج عن بحث القارئ بخصوص اسم أو قضية لا يجدها في هذا الرصد فألحق به عنوان فرعي "حصيلة أولية"، وأفاض بلقزيز في رصد العقبات العملية التي اعترضت إنجاز هذا العمل الذي استغرق ما يقرب من ثمانية أعوام . وبالفعل هناك الكثير من الملاحظات التي تفرضها النظرة الأولى للعمل، في المقدمة يسهب بلقزيز في الحديث عن المعوقات ولا يتطرق إلى المنهج أو الرؤية أو الهدف، بخلاف الإشارة إلى التدخل أحياناً في صياغات المشاركين بتدقيق المعلومات وحذف الزوائد والاستطرادات والتخفيف من لغة أحكام القيمة، ويحق للقارئ أن يندهش لعدم وجود أي جزء مخصص للعمارة ولا يقتنع بما يرد في المقدمة مبرراً لهذا الغياب بصعوبة التنفيذ . نتوقف في الكتاب كثيراً لنتأمل الاستفاضة في جزء مخصص لحقل معرفي مثلما هو الحال مع "الفكر الفلسفي" في مقابل الاخلال الواضح في "الفن التشكيلي"، أما في "القصة القصيرة" فتدرس من خلال تطور القصة في كل بلد عربي على حدة، أما "المسرح" فملحق بأسماء بعض الأعلام، حيث نجد: مسرح توفيق الحكيم ومسرح سعد الله ونوس ومسرح جواد الأسدي وهكذا . وتحتل الرواية المساحة الأكبر في الحصيلة الأدبية والفنية وهي رؤية نعتقد أنها راهنة تهدد اهتمامات الأدب العربي وتاريخيته خلال القرن الماضي . الأهم من ذلك الإرباك الذي يتسلل إلى المتلقي نتيجة للتناقض الواضح بين عنوان الكتاب وتأكيد المقدمة للقارئ أنه أمام عمل يؤرخ للثقافة العربية، وتظهر المطالعة المبدئية أن أبحاث العمل تضيء على مسار قضايا ثقافية خلال قرن، وفارق بين التأريخ والبحث والإضاءة، وتخلو مقالات الكتاب من قراءات إضافية، الأمر الذي يعطي انطباعاً واضحاً أننا إزاء مجموعة من المقالات الفكرية المجمعة حاول التبويب أن يضفي عليها قدراً من الصبغة العلمية، وربما تكشف قراءة تحليلية ومتأنية للكتاب عن الكثير من المسائل التي تحتاج إلى النقاش والمراجعة . كيف نؤرخ للثقافة العربية؟ أو على وجه الدقة كيف نكتب تاريخاً موسوعياً لثقافتنا خلال فترة ما؟ وما هي الجهات المنوط بها القيام بمثل هذا العمل؟ وماذا عن الرؤية والمنهج؟ وكيف نتجاوز الخلافات الأيديولوجية التي ربما تعترض هذه الكتابة؟ وبماذا ستفيدنا قراءة تاريخنا الثقافي؟ وهل نستطيع الحديث في يوم ما عن عمل شبه جامع يتميز بالنزعة العلمية، أو شبه العلمية، ويلقى قبولاً في مختلف الأوساط الثقافية؟ وهل في الإمكان تأسيس لجنة دائمة تتابع مثل هذا العمل بحيث يبقى مفتوحاً للمراجعات والقراءات والتعديلات والإضافات؟ . . . إلخ . أسئلة شائكة تتوارد تباعاً عند التفكير في الإجابة عن سؤال التأريخ الموسوعي في راهن الثقافة العربية، تشير أولاً إلى تاريخانية لا بد من الالتفاف إليها، فتلك العصور التي توصف دائماً بالانحطاط شهدت التأليف الموسوعي وبجهود فردية والمقارنة بعصور أخرى تمأسست فيها الثقافة وتشهد يومياً مجموعة من المشاريع المشتركة، وتعرف وسائل الانفتاح على العالم ويتوافر لها سهولة الحصول على المعلومة، لن تكون في صالحنا إطلاقاً، والنتيجة نفسها سنجدها عند المقارنة مع الآخر في ما يتعلق باهتمامه بتاريخنا الثقافي، المسألة هنا تتسم بالسيولة الزمكانية، فالتراجع واضح سواء في مسارنا التاريخي أو في موقعنا في الجغرافيا الثقافية . لنتخيل أن بضع مؤسسات أو مجموعة من المراكز البحثية العربية قررت التعاون في ما بينها لإنجاز مشروع بهذا الحجم وبهذه الأهمية، وهي من خلال هذا التعاون تتجاوز منطق الجزر المعزولة، وتمتلك كوادر علمية مؤهلة وربما على درجة من التواصل من جهة أخرى مع نخبة من مفكرينا ومثقفينا، فضلاً عن قدرتها على توفير التمويل اللازم ووضع تصور مبدئي لمراحل المشروع والمدة الزمنية المزمع إنجازه فيها، أي أنها تخطت الكثير من المعوقات العملية، في هذه الحالة ستصطدم برؤى منقسمة لا تبدأ خلافاتها بتعريف الثقافة بمستوياتها المختلفة ومجالاتها المتعددة، بقضاياها الجدلية وأطرها المرجعية وقواها الفاعلة، ولن تنتهي بصراع مماثل حول مفهوم التاريخ ومدارسه المتباينة ما نعرفه منها، وما بدأ يتسلل إلينا مؤخراً من خلال تسارع وتيرة الترجمة النسبي، وليس مروراً بإشكالية المنهج، والمردود الفكري من مشروع على هذه الشاكلة، أما مسألة الضبط العلمي وتحول المشروع تدريجياً إلى ما يشبه دائرة المعارف وانفتاحه المستمر على كل جديد فمفردات هي بالتأكيد ستكون غائبة عن أفق هذا المشروع . هذا السيناريو يؤكد مجموعة من الإشكاليات التي لم تستطع ثقافتنا حسمها أو الفكاك منها حتى الآن، يأتي في مقدمتها مفهوم العمل الجماعي، تلك المسألة العويصة التي لا تظهر في مجرد التفكير في مشروع ثقافي عام، ولكنها واضحة أيضاً في عدم القدرة على تأسيس مدارس بحثية أو حتى أدبية في الثقافة العربية في نطاق قومي أو حتى قطري، والظاهرة لا تقتصر على تجلياتها الأفقية وحسب ولكنها تمتد رأسياً أيضاً بمعنى أننا لا نراكم على بعضنا بعضاً، لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون، البداية دائماً من الصفر، هي جهود فردية دائماً ولذلك فبإمكانك أن تقرأ كتاباً هنا أو كتاباً هناك لتتعرف إلى أبرز محطات تاريخ الثقافة العربية في القرن العشرين، تكتمل الصورة من خلال الأجزاء حيث لا توجد تلك المظلة التي ننطلق منها جميعاً، أو حتى الحد الأدنى من التوافق اللازم لبناء رؤية كلية يرضى عنها الفرقاء كافة . الإشكالية الثانية ترتبط بمسألة الضبط العلمي، فكيف يمكن تنفيذ قراءة تاريخية بهذه الأهمية تتحول إلى مرجع لكل الباحثين العرب؟ هنا سنجد الأيديولوجي متجاوزاً لكل قناعة أخرى . أن اقرأ مقالة علمية منشورة في كتاب موسوعي متخصص في أي حقل ثقافي يعني أن أتشبع معرفياً بما تتحدث عنه هذه المقالة، أما القراءات التي تحيل إليها المقالة فتدفعني إلى الإلمام بتفاصيل هذا الموضوع المختلفة . هي كتابة تبتعد عن الرصد المدرسي متخففة قدر الإمكان من توجهات الكاتب الفكرية، هي كتابة نظرية وجمالية في الوقت نفسه، تحض على السؤال وتدفع إلى البحث وتثير النقاش . الإشكالية الثالثة تتمثل في القدرة على الانفتاح على كل ما هو جديد، فلا يمكن رصد تاريخ حقل ثقافي ما من دون التنبيه إلى النقاط التي لم نلتفت إليها في هذا الحقل أو ذاك، لماذا انتشر هذا الاتجاه في تلك الحقبة من دون غيره؟ ما هي الحاجات الموضوعية لذلك؟ والعكس صحيح أيضاً: لماذا تأخر تعرفنا إلى هذه النظرية؟ ولماذا اكتشفنا هذا الكاتب متأخراً؟ إن التفكير في تمثلاتنا الثقافية في الماضي سيفتح الباب واسعاً أمام مد البصر إلى المستقبل، فالمقالة العلمية لابد أن تشير إلى المسائل التي ينبغي للباحث التطرق إليها في عمله المقبل مستفيدة من إطلالتها على مسار ما تدرسه وما توصل إليه الآخرون وما يتطلبه راهن الثقافة العربية . إنها بمعنى ما فتح لأفق آخر . الإشكاليات السابقة وغيرها لا تعترض سبيل الكتابة الموسوعية في تاريخنا الثقافي وحسب ولكننا نعتقد أنها تعيق كتابات رديفة: الأطالس والقواميس والأنطولوجيات والتقارير، الأمر الذي ينعكس بالسلب في الكتابة السيارة ويخضعها للذائقة الفردية ويفقد الكتابة الرصينة البوصلة حين تنجر وراء السائد والمعروف . فغياب الرؤى الكلية يفقد الجميع، الأفراد والمؤسسات القدرة على الفعل الثقافي الجاد والتقدم إلى الأمام .