قراءة في ديوان (التاريخ السرّي لفارس الغبار) الآن للتوّ انتهيت من قراءة ديوان الشاعر إياد شماسنة، "التاريخ السرّي لفارس الغبار"، "ولا أعرف إذا كان هذا العمل هو نتاجه الأول أم هناك غيره".. قرأته جرعة واحدة، وأنا لا أتحدث عن معجزة اجترحتها، بل هي في غوصيَ المرهق في مفردات لم تخرج عن القيم الأصيلة البانية متاعنا الثقافي، وجدتها تستولد من اللغة مفردات حديثة تُغني نداوةَ النصوص، كي تستقيم مع الرمز المرجو من فنّ صناعة الأجوبة، لتأتينا بليونة محمولة على أجنحة صور تسبح في فضاء الإبداع. أطبقت جلدة الديوان الأخيرة، وأغمضت عينيّ، وسبحتُ في سحر هذا الذي قرأت.! هي تلك اللحظة الخلاّقة التي تقترب بالكاتب من الشعور بالانتشاء دون أن يسعى إلى استفزاز القارئ، بل تشعر وأنت تقرأ بأن الشاعر يعاني "وهو في غاية الارتياح" من غرائب! فهو رهين الغربة والوحشة ومتاعب الفقد.. والشاعر هنا، ولو أنك لا تعرف عنه شيئاً، يمكنك أن تلامس تضاريس غُربةٍ ذابحة لا يعيشها فقط، بل تجدها موشومة على أفانين حروفه حتى ولو كان في سبحِ الحبّ، يعالُجها، ويحاول أن يُنضجَها على نار هادئة، يراكِمُها، فتصبح ذاكرة. أدركتُ، وأنا أقرأ، أنني مع شاعر واعد متمكّن يعرف صوابية الأوزان، وانسيابية القافية، والإمساك بناصية اللغة في دائرة وحدة الموضوع في القصيدة الواحدة، ومن ثم، وقد يكون هذا ما لفتني أكثر، الاختيار الحصيف لفكرة ما تقوله مفردات القصيدة، كأنها يمامةٌ مستكينة بين يديّ طفلٍ عابث، يُفلِتها ذات لحظة كي تطير إلى لا مكان، أو إلى أكثر من مكان يحدد لها القارئ المسار، فيصبح "بذكاء الشاعر" شريكاً في عملية الخلق الإبداعي. ما دفعني لمتابعة القراءة دون توقّف، تلوّن الأوزان في القصائد على إيقاع البحور "الفراهيدية" السهلة، والصعبة في آن، حيث لا يتركك الشاعر تشعر للحظة بملل أو تعب. وهو أيضاَ سواء عن قصد، أو دون قصد، يعلن عن إنسانيته "عندما تفرض المباشرة نفسها على النصّ" من خلال رفض أي مستجدّ غريب يقلّلُ من فرص الأمل على مساحة أرض جغرافية، ومساحة قلب، لا تفارق خيالاته. جاءت القصائد كلها في الديوان "قصائد البحر"، أو بمعنى آخر "الكلاسيكي" ذات الشطرين "صدر وعجز"، لكن ما شد انتباهي أن في هذا الكلاسيكي "المتّهم من البعض" بأنه غير قادر على الخروج إلى الحداثة، استطاع أن يكسر بقوّة جدار تلك التُهم، واستطاع أن يحلّق في فضاء حداثة مرفوعة على أصالة وهذا ما نحتاجه حقاً، لأنني أؤمن بأن الحداثة تنمو على الأصالة ولا تلغيها، في هذا الديوان، وفي مسار القصائد الواحدة تلو الأخرى يعلن الشاعر، دون أن يعلن، بأنه حداثيّ بامتياز من حيث الأفكار، والرويّ والمفردات وسحر القوافي. في صدى تراتيل القصائد، حزن وغرابة وقهر مكتوم، يصّاعد كرجعِ صدى لصرخةٍ تقفز من قلب مرايا شعرية، تأسست على قواعد معرفية، ووصلت إلى حداثة جادّة وملتزمة لم تمتهن اللغة، بل اشتغلت على لفتاتها ومفرداتها الجمالية لتعبّر عن أحاسيسه ومشاعره. نبحث، ونحن نقرأ، عن ذلك الآخر الساكن في كلّ واحد منا، تارة نتمنى أن نكونه، وتارةً، عندما يدخل إلى صميم إدراكنا، نتمنى أن لا نلتفت إليه، لكن "اياد شماسنة" استطاع أن يقيم وشائج صداقة لا تنفصل بينه وبين أناه الأخرى، وبنى جسراً من غصون ذلك الآخر الطليق، ليعبُر إلى ما لا يستطيع أن يعبره هو، كما استطاع "وهذه تحسب له بشكل مقبول" إقامة ميزان عدل بين شعريّة اللغة وصورها وسحر بيانها الذي عادة ما يتغلّب على الفكرة أو الحدث أو أي شيء آخر في كثير من قصائد الشعراء، وبين الفكرة ذاتها، وهذا أمر أعرف مدى صعوبته، وبخاصة في مسار كتابة الشعر. وأنا هنا لا أقطع ولا أستقطع من النصوص شواهدا، بلأتحدث عن العمل برمّته، وعن الروح الشفيفة التي سكنت وراء الكلمات والمفردات، وأدّت هذا الدفق من الجمال. إن أفضل الرأي هو الذي يُقال في شيء لم تقرأ لكاتبه عملا قبله، ولا تعرف الكاتب عن قرب، كي تتحقق المصداقية من الرأي المفترض، والشفافية في تناول المادّة دون أن تحمل، ولو مجرد ومضة فكرة، عن الكاتب وقدراته وتَوالي نضوجَهُ الفني، ومن أجل ذلك "كما أعتقد" كان زحفي وراء النصوص، زحفاً ذاتيّاً لم يتأثر بأي موجَة، ولا أيّ فكرٍ مسبق، اللهم إلا أن الشاعر ابن فلسطين الساكنة في كبدي، وقد لفحته شمس عكا، وتشظّت روحه، كما روحي،مع تلاطم أمواج بحرها على سورها المنيع، وكانت النوارس رفيقة الدروب التي مشيناها.. أيها الشاعر الإنسان المغيّب في زحمة وقت مجنون، يُسقط على يباس حياتنا في كلّ لحظة صنوف الظلم والقهر والإلغاء. أيها العاشق الثائر الرافض زمن الرايات المشدودة على هياكل الذلّ والاستسلام. لأنك أنت، ستبقى رهين السدود المنصوبة فِخاخاً أمام زحف كلماتك، ولأنك أنت، سيبقى لحن الحب نغماً يشدو،تَكبرُ به، ويَكبَرُ بك. عدنان كنفاني