الجمعة 30 أغسطس 2013 02:30 مساءً ((عدن الغد)) المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية اثنان وثلاثون شهرًا هي عمر الموجة الأولى من الثورة المصرية، سقط فيها بعض الناس، واستشهد آخرون، وقُبض على آخرين، وظلت ملايين تتابع المشهد من بعيد دون أن ترى فيما يحدث أفقًا للتغيير، على الرغم من الوعود من الجميع بغد أفضل. خلال كل هذه الفترة لم ينقطع الحديث عن الدولة. مراقبون وسياسيون وحزبيون على اختلاف مواقفهم السياسية وانتماءاتهم الحزبية مشغولون بالدفاع عن الدولة. وثوار ملئوا الميادين ومواقع التواصل الاجتماعي ضجيجًا حول الدولة. حديث عن هيبة الدولة التي سقطت، وحديث عن مؤامرات الدولة العميقة، وحديث عن ضرورة بناء مؤسسات الدولة، وحديث آخر عن عنف الدولة وعنف المجتمع. موضوعات ذات صلة ومنذ الثالث من يوليو 2013 فرضت على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر وقائع جديدة، ارتبطت بتطورات وتداعيات العام الأول والوحيد لحكم الدكتور محمد مرسي، مرشح حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين في أول انتخابات رئاسية مدنية. واختلفت التكييفات القانونية والسياسية والحقوقية، حول تسمية وتوصيف ما حدث، فهل هو ثورة جديدة أعادت الاعتبار للشرطة التي أهينت في 25 يناير؟ أم موجة ثورية جديدة تسترد المسار وانحاز لها الجيش كما انحاز في 11 فبراير؟ أم هو انقلاب عسكري مكتمل الأركان أجهض التجربة الديمقراطية الوليدة، وأجهز على أي احتمالات لاستعادتها في المستقبل القريب أو البعيد؟. وغرقت الصحف ومواقع الأخبار بالتحليلات عن السقوط المريع للدولة المصرية خلال العام الأول والأخير لحكم الإخوان على مستوى الأداء والانتماء والإنجاز، وكيف أنه حان الأوان لاستعادة الدولة المصرية العريقة كمقدمة لاستعادة مكانتها على المسرح الإقليمي والدولي. ولكن السؤال الغائب والذي يطرح نفسه بقوة عن أي دولة نتحدث؟ وهل الدولة المصرية العريقة تستحق الاستعادة أم إعادة البناء؟. شواهد على أزمة الدولة المصرية كتب أحد النشطاء الحقوقيين معلقًا على حال "مشرحة زينهم"، إحدى أشهر الأماكن المصرية خلال ال32 شهرًا الماضية، وربما لأشهر قادمة أخرى: "يقاس صلاح الدولة بتعاملها مع أضعف الخاضعين لها؛ المساجين، اللاجئين، أطفال الشوارع، المرضى النفسيين... إلخ. كل من تواجد خارج إيقاع الحياة العادية". وهنا مربط الفرس حول مسألة الدولة المصرية وبنائها، أو استعادتها. لدي من الشواهد مئات على أن الدولة المصرية العريقة ودورها الرائد والقائد في المنطقة هو أمر موجود في أمنياتنا، وليس له ترجمة في الواقع، ولكن سأشارككم فقط بعض هذه الشواهد: في "المركز القومي للبحوث" وهو واحد من معاقل البحث العلمي ذي الميزانية الضئيلة، حيث توجد بعض أفضل العقول المصرية؛ حدثني البعض عن أبحاث أجريت منذ الستينيات حول حبوب لمنع الحمل تصنع وتنتج محليًّا من أعشاب موجودة في مصر، وكان تصنيع هذه الحبوب سيوفر على الخزانة المصرية عملة صعبة من الممكن أن يتحول إلى مصدر لعملة صعبة إذا تم تصديره. تصنيع هذه الحبوب أيضًا كان سيوفر على وزارة الصحة المصرية أموالا طائلة تنفق على علاج الآثار الجانبية لوسائل منع الحمل. ولكن مصير هذه الأبحاث هو الأدراج. من يعمل في مجال منظمات المجتمع المدني في المناطق الفقيرة في مصر، سواء في العاصمة أو في الأطراف؛ يدرك تمامًا أن الدولة لا تتواجد إلا لتوقع عقوبة، أو تحصل مخالفة، أو تقبض على خارج على القانون. أما أن تقدم خدمات أو تحمي ضعفاء فهو أمر لم يحدث طوال عهد الدولة المصرية، سواء أكان حاكمها ملكًا أم رئيسًا من خلفية عسكرية أم حتى رئيسًا باهى أنصاره ومؤيديه بأنه حافظ للقرآن ملتزم بالصلاة. وأما القانون الذي حكم عمل منظمات المجتمع المدني فيما مضى، ومشروع القانون الذي حل مجلس الشورى قبل أن يقدر له إقراره. فالفروق بين النسختين هي فروق في التفاصيل والصياغة، ولكن تظل الفلسفة الحاكمة واحدة؛ دولة لا تثق إلا في نفسها، وفي مؤسساتها التي تخلقها، وتديرها، وتشرف عليها، وتتعامل مع المجتمع من منطلق قصوره، وعدم قدرته على اتخاذ قرارات، أو التفضيل بين أولويات بعيدًا عن سيطرة الدولة. الباكون على أخونة الدولة يستدلون على ذلك بحجم التعيينات الإخوانية في الوزارات، وعلى رأس المحافظات، وفيما أطلق عليه مؤسسة الرئاسة. وينسى هؤلاء أن وضع ما قبل الثورة كان هو نفس الحال بنكهة الحزب الوطني والمؤسسة العسكرية، وأن ما بعد 3 يوليو شهد تعيين 19 محافظًا ينتمون إما للمؤسسة العسكرية أو الشرطية بعدما عين وزير التنمية المحلية ذو الخلفية البوليسية. وينسى الجميع مطالبات العديدين بأن يكون اختيار المحافظ بالانتخاب لتحقيق علاقة أكثر كفاءة وفاعلية بين المواطنين وممثلي السلطة التنفيذية في المحافظة. جميعنا يتذكر مبارك وهو يعلن عن المرات العديدة التي حاول فيها إثناء "صدام حسين" عن فكرة غزو الكويت في عام 1990 بدون فائدة، وجميعنا أيضًا يتذكر اللقاء الباهت الذي عقده مرسي في أديس أبابا لتعلن بعده إثيوبيا بساعات قليلة اعتزامها المضي في بناء سد النهضة، بغض النظر عن قرار مصر. ونتذكر بكثير من الحزن الحرب الشعواء التي نشبت بين مصر والجزائر على خلفية شغب ملاعب كرة القدم، وما قيل وأشيع عن دور مصر في فرض الحصار على العراق منذ حرب أمريكا على الإرهاب في بداية الألفية الجديدة، وما ذكر عن دور مصر في الوساطة بين إسرائيل وحماس خلال الجولة العسكرية الأخيرة في عام رئاسة مرسي. وفي كل مرة أدركنا أن قدرة مصر على التأثير في محيطها الإقليمي لا تعبر عن حقيقتها، أو مصالحها، ولكن عن مصالح ترتيبات وتحالفات إقليمية ودولية لا ترى المجتمع من الأصل. جوهر المشكلة بين الدولة والمجتمع هل المشكلة في كل ما سبق هو رئيس الجمهورية وتوجهاته، أم الفساد الذي ضرب أركان الدولة المصرية، أم توحش المؤسسات الشرطية في العقد الأخير لحكم مبارك، وعدم وجود رغبة أو قدرة حقيقية لدى مرسى في إصلاح الداخلية؟ أم أن المشكلة الحقيقية تكمن في جوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع في مصر؟. لا نقصد بالعلاقة بين المجتمع والدولة النماذج الأربعة التي طرحها "مكدال" في أطروحته الشهيرة، فالطريقة الميكانيكية في رسم العلاقة بينهما لا تصلح لتفسير الحالة المصرية، سواء في العقود التي سبقت الموجة الثورية في 25 يناير أو بعدها. فهذه الحالة الثورية التي تتحدى حتى التعريفات التقليدية للثورات نشأة وتطورًا ومسارات، تستدعي هذه الحالة أيضًا شكلا أكثر تعقيدًا للعلاقة بين المجتمع والدولة يستجيب للتطورات التي طالت الأول خلال الأعوام الماضية. فتاريخ الدولة المصرية منذ آلاف السنين يقوم على إعلاء قيمة ومكانة المركز والعاصمة في علاقته بالأطراف. في الوقت نفسه تشكل المجتمع المصري بعيدًا عن الدولة التي قررت منذ السبعينيات الانسحاب من مجالاتها الرئيسية كالتعليم والصحة، وأبقت على وظائفها الأمنية التي مكنتها لفترة طويلة من تصدير وهم الأمن المعتمد على الشرطة فقط. وشكلت لحظة 25 يناير انفجارًا في علاقة المجتمع بالدولة، وفي علاقة المركز بالأطراف. ويمكن تلمس ملامح هذا الانفجار في غياب فكرة القيادة، والأيديولوجيا، وجهوزية البدائل للنظام القديم. وتأكدت لدى الأطراف منذ هذه اللحظة الثورية ما كان قد استشعر من قبل من ضعف القبضة المركزية، فانطلقت الأطراف في محاولات لتأكيد دورها، وعبرت عن نفسها في رفض عنيف وحاسم لتعيينات محافظين، أو حتى اقتراحات تتعلق بتنظيم شرطة موازية لمعالجة قصور الشرطة عن الحماية، واستمر هذا في محاولة محافظات الصعيد مثلا الإصرار على موقفها الداعم للرئيس مرسي . على صعيد آخر، تعرضت كل القوى السياسية من كل الاتجاهات خلال الشهور الماضية لهزة عنيفة طالت المنطلقات الفكرية، والتحالفات السياسية، وتوازنات القوى داخل هذه الاتجاهات، نركز على واحدة فقط (لدواعي المساحة) هي المرأة والمجال العام. كثير هو ما كتب عن الدور الذي لعبته نساء مصر العظيمات في الموجة الثورية في 25 يناير، وما تلاها من موجات. وكما عبر الكثيرون عن أملهم في أن تكون هذه الموجة مقدمة لكسر المجتمع الأبوي، وسيطرته على النساء؛ تخوف آخرون من أن تحولات المجتمع والدولة في مصر من الممكن أن تعيد دفع المرأة المصرية إلى هامش المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولكن تحليل تواجد المرأة المصرية في المشهد السياسي على اختلاف ألوانه الأيديولوجية ينبئنا بوجود عنصر جديد في العلاقات بين المجتمع والدولة على المستوى الفكري. فنساء التيار الإسلامي اللاتي اعتدن عدم الظهور، والبقاء في الصفوف الخلفية، والقبول بوجود "وردة" مكان صورهن في الدعاية الانتخابية. هؤلاء النسوة شاركن في المظاهرات التي قادها التيار الإسلامي -وفي قلبه الإخوان المسلمون- لاستعادة شرعية الرئيس المنتخب ". ولم يقتصر تواجد هؤلاء على مجرد المشاركة الرمزية في الميدان، ولكن تعداه للإقامة والاعتصام، بل والسقوط ضحايا وجرحى في مواجهات عديدة مع قوات الأمن ومع المواطنين في أنحاء عديدة من مصر. فهل يمكن تصور أنه في السنوات القادمة أو حتى في الأشهر القادمة ستعود هؤلاء النسوة إلى الصفوف الخلفية؟ هل يمكننا أن نحلم بظهور صف جديد من القيادات في التيار الإسلامي ترى في النساء شريكات حقيقيات في المجتمع، ومن ثم تعتمد عليهن في تقوية العلاقة بين الدولة والمجتمع من منظور يرى في قوة المجتمع صلاحًا للدولة، وتمكينًا لها من القيام بوظائفها. ولم تسلم التيارات النسوية من التغيير في التركيبة والخطاب وشكل التحالفات. فبعد عقود طويلة من الموقف الحذر، وفي بعض الأحيان العدائي من النص الديني وتفسيراته، والتعامل مع المجتمع على أنه يكرس السلطة الأبوية، ويوظف سلطة الدين بغرض الإبقاء على النساء أسيرات له؛ تشكلت في الأعوام الماضية تيارات جديدة ترى في وجود الدين والتدين حقيقة مجتمعية، وتحاول فتح أبواب للفهم والتفسير، والتعامل مع النص الديني المقدس والتفسيرات البشرية المختلفة له. أي تغيير متوقع للدولة؟ هل يمكننا أن نتوقع أن يُنتج كل ما سبق تغييرًا في شكل العلاقة بين المجتمع والدولة في مصر بشكل يسمح للأول بالنمو بشكل مستقل وفعال، ويرسم علاقته مع الثاني خارج أطر السيطرة التي اعتادها المركز في مصر ونخبته الحاكمة. ربما ما زال الوقت مبكرًا للحكم على شكل جديد لهذه العلاقة، وربما الشواهد الحالية لما بعد سقوط حكم الإخوان لا تنبئ بتغيير في توازنات القوى، بل تشير وتؤكد على قدرة الدولة المصرية على إعادة إنتاج نفسها بأسماء جديدة، لكن الجوهر واحد، دولة لا ترى في المجتمع شريكًا، بل تراه مجرد مجال لإنفاذ إرادتها. لكن ما يتغافل عنه الكثيرون هو مظاهر إعادة التشكل والتموضع التي حدثت وتحدث داخل المجتمع المصري، والتي لا بد وأن تترجم نفسها في الضغط من أجل علاقة جديدة للدولة مع المجتمع تجعلنا نحلم بإعادة بناء الدولة المصرية العادلة المعبرة عن مواطنيها دون تمييز أو إقصاء أو رغبة في السيطرة.