يمثِّل المستقبل المساحة الزمنية المجهولة التي سيظل الغموض يكتنفها حتى نعيش لحظاته، وقد سعت فئام من البشر إلى البحث عن طرق تساعدها على التنبؤ بأحداث المستقبل، فالكل يتطلع ويشتاق إلى معرفة ماذا سيكون؟ وهذا أمر مركَّب في النفوس لا ينكره أحد. ويُروى أن العالم الشهير ألبرت آينشتاين سُئل ذات مرة: "لماذا تبدي اهتماماً بالمستقبل؟"، فردَّ قائلاً: "ببساطة؛ لأننا ذاهبون إلى هناك". والاهتمام بقضية استشراف المستقبل، يجب أن يأتي من إيماننا بأنها تنبثق من علم يعتمد الواقع، ويتعامل مع المعلومات في إطار منهج علمي متزن ورشيد، وأنها لا تعد هروباً من الحاضر للخوض في واقع مستقبلي محتمل، بل هي دراسة تتفادى الأزمات، وتقدِّم الحلول التي تساعد على بناء غد أفضل يتطلع إليه الإنسان. كما يجب أن يأتي اهتمامنا بدراسة المستقبل، ليس من أجل رؤيته بصورة محددة نريدها؛ وإنما لأجل تقديم احتمالات مشروطة يستفيد منها الإنسان؛ لأنه إذا تنبأ بما سيكون من حوادث في المستقبل؛ لأمكنه حينذاك أن يدفع عن نفسه بعضها، لا بأن يمنع حدوثها، ولكن بالتحرز منها والاستعداد لها. وقد شهد هذا الميدان -وما زال- تطورات متلاحقة في منهجياته وأساليبه وتطبيقاته، حتى صارت له مكانة مرموقة بين سائر ميادين المعرفة، ولم يعد ثمة حرج من الإشارة إليه باعتباره من أهم ميادين المعرفة، وعلم من أبرز العلوم الاجتماعية، وهو الموسوم بعلم المستقبليات. وكان من آثار هذا التطور أن زاد الاهتمام به في الدول المتقدمة، وترسخ دوره في عملية صناعة القرار، خاصة على المستوى السياسي والعسكري، واجتهدت الكثير من الحكومات في العمل على زيادة قوتها في مجال بحوث المستقبل، وشرعت في إجراء مشروعات ودراسات للمستقبل حول موضوعات تتسم بالحيوية، ومشكلات ملحَّة؛ وكانت لذلك آثار عظيمة لا تخطئها العين، ولا تغيب عن الباحثين والمهتمين. وأتى ذلك انطلاقاً من وعيها بأن أية أمة لا تهتم بقضايا المستقبل، ولا ترسم المسار الصائب الذي عليها سلوكه؛ فإنها حينئذ تكون قد جانبت الصواب، ووقعت في خلل عظيم، فالأحداث والوقائع التي يفاجأ بها المجتمع العالمي ليست أموراً طارئة أو مبهمة، ومهما كانت مجالاتها وغرابتها فهي عبارة عن أحداث متصلة الحلقات، يستوعب ترابطها من لديه القدرة على الربط والاستنباط ورؤية المستقبل. ونحن إذا تأملنا السعي الحثيث والتنافس بين الأمم في تحقيق أهدافها، والسيطرة على الآخرين وفرض نفوذها وتوجهاتها الفكرية وأنماطها الاجتماعية؛ أدركنا أهمية بذل غاية الجهد في فهم وتناول الدراسات المستقبلية. وقد كان للشركات الكبرى والمؤسسات المدنية أيضاً نصيب من الاستفادة مما توفره بحوث المستقبل من معلومات ونتائج، وانعكست محصلتها على الكثير من سياساتها وقراراتها في مختلف القطاعات، وظهرت هناك مؤسسات معنية بدراسة المستقبل، تعمل على تقديم خدمات مفيدة في هذا المجال لعدد متنامٍ من العملاء. وخلاصة القول، إن الدراسات المستقبلية أصبحت من ضروريات الحياة الآمنة للأفراد والجماعات والشركات والدول، التي تسعى للحفاظ على مكانتها وقوتها، والخلاص من أسْر الماضي، وتحقيق التواؤم مع المتغيرات المرتقبة في مختلف مجالات الحياة.