مقالات سياسة خارجية جديرة بالاحترام ابحث في اسم الكاتب تاريخ النشر: 27/11/2013 لم تخضع الحكومة المصرية الجديدة للضغوط القوية التي تعرضت لها منذ اللحظة الأولى لانبثاقها، فقد رفض الفريق أول عبدالفتاح السيسي قائد القوات المسلحة المصرية، الاستجابة للإملاءات الأمريكية في الأيام الأولى التي تلت مليونيات التغيير في مطالع يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين على الرغم من إصرار وزير الدفاع الأمريكي على الاتصال به 15 مرة متتالية في يوم واحد، بحسب العديد من الصحف الغربية، وقد اعتبر هذا الموقف دليلاً قوياً على النزعة المصرية الاستقلالية التي عبرت عنها تلك المليونيات، وتعزز هذا الشعور بعد تجميد قسم من المساعدة السنوية الأمريكية لمصر ورد الحكومة المصرية بالحديث عن الاستغناء عن المساعدة لصيانة القرار المصري المستقل، وأيضاً عبر اتصالات مكثفة مع روسيا التي وعدت المصريين بأسلحة وقروض ميسرة . وإذا كانت مصر لم تخضع لواشنطن، فمن البديهي تماماً ألا تهتم كثيراً لمشاعر رجب طيب أردوغان ودعوته لتحرير الرئيس المخلوع محمد مرسي، ولكن عدم الاكتراث ما كان كافياً على ما ظهر من بعد لحمل الحكومة التركية على التهدئة والتعاطي مع مصر بواقعية، فكان أن زعم أردوغان مؤخراً أن بلاده لاتتعامل مع الحكومات غير المنتخبة واعتبر أن مرسي وحده يمثل الشرعية السياسية في مصر فجاءه الرد صاعقاً، إذ استدعت مصر سفيرها في أنقرة وخفضت التمثيل الدبلوماسي مع تركيا إلى مرتبة قائم بالأعمال . الأمر الذي تسبب في أزمة سياسية بين البلدين يرى المصريون أنها ستزول حتماً عندما يغير رئيس الحكومة التركية موقفه من مصر، أو عندما تحل في تركيا حكومة أخرى، علماً بأن العلاقات الاقتصادية بين البلدين وثيقة للغاية وأن هذه الأزمة هي الأولى من نوعها منذ حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر . وفي السياق نفسه، يلاحظ أن الحكومة المصرية الجديدة ردت بقوة على الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في سبتمبر/أيلول الماضي عندما طالب "بتحرير" محمد مرسي، فقد سحبت سفيرها من تونس ولم تعده إلا في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، حيث يعتقد أن الحكومة التونسية المتوقع تشكيلها ستكون أكثر واقعية من سابقتها وأكثر احتراماً لخصوصيات الدول العربية وبالتالي الامتناع عن التدخل في شؤونها . وفي سياق متصل يبدو أن مصر لا تخضع أيضاً للإرهاب وهي مصممة، بحسب وزير الدفاع المصري، على اقتلاعه مفترضة أن المعركة مع الإرهاب تستند إلى الشرعية الجديدة التي أطاحت الرئيس السابق بواسطة المليونيات الشعبية والتواقيع التي بلغت الملايين . وإذ تصرّ القاهرة على تعظيم شرعية التظاهرات المليونية من أجل التغيير ووضع مجمل قواها في المجابهة مع الحكم السابق، فإنها توفر الفرصة لحكومات ما يسمى بالربيع العربي للسير على رسمها، فمن مصر انطلق حكم "الإخوان" المسلمين ومنح تغطية مهمة لحكومات "الإخوان" في بلدان عربية أخرى، ومن مصر أدى تغيير حكم "الإخوان" إلى تغيير مماثل نشهد إرهاصاته القوية في تونس وليبيا وهو ضعيف في اليمن وليس حاسماً في المغرب الأقصى . لكن التأثير الأكبر يطال تركيا أردوغان التي راهنت على تمدد "الإخوان" المسلمين وتسلمهم الحكم في المشرق العربي وشمال إفريقيا ليكونوا مجرات في فلكها، وليعيد رئيس الحكومة التركية مجد العثمانيين من خلال كتلة تركية عربية تحظى باهتمام أوروبي وغربي وأطلسي وتتيح لتركيا موقعاً إقليمياً ودولياً في غاية الأهمية . ما من شك في أن الإطاحة الشعبية بالرئيس مرسي قطعت الطريق على الحلم الأردوغاني، ولعلها تعطي فرصة في الانتخابات القادمة حيث تشير استطلاعات الرأي الى تراجع حظوظه في العودة إلى الحكم وتعزيز حظوظ منافسيه العلمانيين الذين أكدوا مراراً أنهم سيعتمدون سياسة خارجية مختلفة إذا ما تولوا الحكم تستند إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية . ما قد يقع لأردوغان ربما يقع لحركة النهضة التونسية التي اختارت الدفاع عن الرئيس المصري السابق لأسباب إيديولوجية، فالمؤشرات الراهنة تفيد أن الحكومة المقبلة لن تكون بقيادة تيار الشيخ راشد الغنوشي الذي يعد من أمهر زعماء الإسلام السياسي في العالم العربي، لامتناعه عن تلقي الموجة المضادة للإخوان المسلمين بصدره كما فعل "الإخوان" المصريون ورهانه على حكومة "لايموت معها الذئب ولا يفنى الغنم" كما يقول المثل . ربما تفسر المؤشرات السابقة فضلاً عن الخيار الروسي الذي عادت إليه الحكومة المصرية، التراجع الأمريكي إزاء التغيير الشعبي المصري والذي عبّر عنه وزير الخارجية جون كيري مؤخراً عندما انتقد "الإخوان" وأكد أنهم صادروا الربيع العربي الذي قاده الشباب . ولا يقلل التوضيح الذي صدر من بعد عن الخارجية الأمريكية من أهمية التصريح نفسه، فقد ذكرت الخارجية أن كيري كان يريد القول إن الربيع العربي في بدايته كان من دون "إخوان" وإن هؤلاء جاءوا من بعد، والكلام في الحالتين لا يتحدث بلطف عن تيار سياسي دفع ثمناً باهظاً جراء تحالفه مع الولاياتالمتحدة وخضوعه لإملاءاتها، خصوصاً ما يتعلق منها بالصراع مع "إسرائيل"، والراجح أن يصيب هذا التصريح التيار "الإخواني" بإحباط شديد، فهو يبين للمرة الألف أن الولاياتالمتحدة تريد تابعين لها وليس سلطات مستقلة وديمقراطية تبحث أولاً وأخير في الوسائل والطرق المناسبة لخدمة مصالح شعوبها ونهضتهم . يبقى القول إن السياسة الخارجية لثورة مصر حققت أغراضاً حاسمة في فترة زمنية قصيرة، فقد ردعت التدخلات الخارجية في شؤونها وردت بقسوة على كل استخفاف تعرضت له وناورت بمهارة في الموضوع الأمريكي، فكان أن فرضت احترامها على الجميع، ومن المنتظر أن تحمل "الإخوان" المسلمين في مصر على تغيير استراتيجيتهم الصدامية حتى الآن والبحث عن وسائل اندماج أكبر في الفضاء السياسي المصري، كما القوى الأخرى .