على مبروك رغم اللغة المخففة نسبيا التي استخدمتها حركات الإسلام السياسي في البيان الختامي الصادر عن مؤتمرها الذي عقدته- قبل أيام قليلة- في العاصمة الأردنية, فإن هذه اللغة المخففة لم تقدر علي إخفاء ما يرقد تحتها من عنف كامن; يظل ملازما- كخصيصة بنيوية ثابتة- لخطاب هذه الحركات. وهكذا فإن ما اشتمل عليه البيان من دعوة القوي السياسية غير الإسلامية إلي التعاون مع حركات الإسلام السياسي عند وصولها إلي البرلمان والحكم, ودعوة القوي السياسية العربية( من الإسلاميين وغيرهم) إلي توحيد الرؤي والتوجهات لبناء دول مدنية مستقرة, لم يفلح في إخفاء ما يؤسس للعنف في خطاب هذه الحركات; والذي يتمثل- وبالذات- في استمرارها في ممارسة التفكير بالشعار. فالتفكير بالشعار- وبصرف النظر عن مضمون هذا الشعار- لابد أن يئول بصاحبه إلي ممارسة العنف, لأن عجز الشعار عن التأثير الفاعل في الواقع- بسبب لا يجعل من سبيل لفرضه إلا العنف. وضمن هذا السياق, فإن شعار الإسلام هو الحل الذي يتسلح به الإسلامويون لا يختلف- وللمفارقة- عن شعار ديكتاتورية البروليتاريا هي الحل الذي تبنته الحركات الشيوعية, في أن العنف هو المآل الذي لابد أن ينتهيان إليه. ومن هنا فان حركات الإسلام السياسي لم تتخلص- في بيانها- من لغة التهديد; حين لم تعتبر نفسها جزءا أساسيا من المشهد العربي فقط, بل وأكدت أن أي سعي لإبعادها من هذا المشهد سيؤدي إلي حروب داخلية في البلدان التي ينتمون إليها. وهكذا فإن اللغة المخففة التي تستخدمها حركات الإسلام السياسي لا تجاوز حدود البلاغة اللطيفة المنثورة علي سطح خطابها; والتي أظهرت التجربة في مصر أنها هي جوهر استراتيجية هذه الحركات في تحقيق التمكين والهيمنة علي مفاصل الدولة. فقد تمكنت هذه الحركات, من حشد القوي المدنية وراء مشروعها, أو تحييدها علي الأقل, عبر استخدام مفردات هذه اللغة الناعمة. إن ذلك يعني أن هذه اللغة ليست أكثر من قناع ملون تراوغ به حركات الإسلام السياسي للتغطية علي ثوابت خطابها الذي يسكن العنف تجاويفه الغائرة العميقة. ولعله يلزم التأكيد, في هذا المقام, أن العنف لا يأتي- كما قد يتبادر للوهلة الأولي- من تلويح هذه الحركات الصريح بإشعال حروب داخلية في البلدان التي ينتمون إليها, بل يأتي من إصرارها العنيد علي الاستمرار في التفكير بالشعار: الإسلام هو الحل; الذي لا تقدر مثاليته علي إخفاء خوائه وفراغه. فهنا تحديدا يكمن جذر المعضلة التي ستجعل خطاب هذه الحركات منتجا للعنف دوما, لأنه يكتفي بالشعار عن التفكير في الأسباب الأعقد التي تؤدي إلي إبعاده من المشهد. وللغرابة, فإن أهم هذه الأسباب هي هذا النوع من التفكير بالشعار. فإذ تفكر هذه الحركات بالشعار, فإنها تعجز عن التأثير الفاعل في الواقع, لكنها وبدلا من التخلي عن التفكير بالشعار, لتكون قادرة علي إنتاج تفكير تقدر به علي التأثير إيجابا في الواقع, تظل تفكر به. إن معضلة هذه الحركات تأتي من الفشل الذريع لخطابها في إحداث تغيير ملموس في الواقع; وهو ما لابد أن ينتهي إليه هذا الخطاب بسبب تبلوره حول السعي إلي تقويض ما هو قائم من دون أن يشغل نفسه كثيرا بإبداع الأساس النظري البديل لهذا الوضع القائم. وهكذا فإن الخطاب يفكر بالشعار, فيعجز عن إبداع حلول إيجابية لأزمة الواقع, فلا يتخلي عن هذا النوع من التفكير, بل يظل يشتغل به. وبالطبع فإن ذلك يعني عجز الخطاب الكامل عن الوعي بالترابط بين فشله في الممارسة العملية وبين طريقته في التفكير بالشعار. وهنا يلزم التنويه بأن نمط التفكير بالشعار ليس حكرا علي الإسلامويين دون غيرهم, بل إن الجميع من فرقاء الخطاب العربي هم من مريدي هذا الخطاب وحامليه; وإلي حد أن من يقولون عن أنفسهم أنهم ملاحدة مصر لهم أيضا شعارهم اللطيف. وعلي غرار خصومهم الإسلامويين الذين يختزلون الحل في معتقد موروث هو الإسلام, فإن الملاحدة يقومون- وللغرابة- بنفس الاختزال للحل في معتقد موروث أيضا هو وضعية القرن التاسع عشر. وبالرغم من أن ذلك يعني أن داء التفكير بالشعار يضرب الجميع من دون استثناء تقريبا, فإن خطورته عند الإسلامويين تفوق ما ينشأ عنه عند غيرهم; بسبب ما يتوافر عليه الشعار الإسلاموي من قدرة هائلة علي التعبئة والحشد. وبخصوص نمط التفكير بالشعار العابر للجماعات والحركات, فإنه ضرب من التفكير الاختزالي الذي يموضع حل أزمات الواقع بالغة التعقيد في كلمة سحرية, أو تركيب لغوي بسيط يسهل حفظه وترديده. ويرتبط ذلك بحقيقة أن القصد من هذا النوع من التفكير ليس إبداع حل للأزمة, بقدر ما هو تعبئة الجمهور وحشده وراء مستبد بعينه. وغني عن البيان أن كون القصد من هذا التفكير هو الحشد, إنما يعني أن الخطاب الذي ينبني بحسبه سوف يلتمس أسباب قوته من عامل خارجي يتمثل في جمهور الأتباع, وليس من قدرته الذاتية علي إبداع حلول فاعلة خلاقة لأزمات الواقع. والحق أن الطريقة التي تفكر بها حركات الإسلام السياسي في الإسلام لا يمكن أن تجعل منه حلا لأزمات الواقع الراهن, بقدر ما يمكن القول إنها تجعل منه عبئا علي هذا الواقع. فالإسلام لا يجاوز- في فكر هذه الحركات- كونه مجرد منظومة مغلقة موروثة, وليس بما هو موضوع لضرب من التفكير المفتوح. وهي لا تجعل الإسلام موضوعا للتفكير المفتوح لأنها لا تريد إبداعا, بل ترجو أتباعا. وإذن فالأمر يتعلق بحركات سياسية عجزت- منذ ابتداء تبلورها مع انتصاف القرن المنصرم- عن بلورة خطاب تقدر به علي حل أزمات الواقع, فاستعاضت عن ذلك بشعار يكون قادرا علي حشد الأتباع وراء مشروعها السياسي. ولكن, ولأن هذا الشعار قد فقد بريقه, ولم يعد قادرا علي حشد الجمهور الذي يبدو أن القطاع الأكبر منه قد أدرك الخدعة, فإنه لن يكون أمام جماعات الإسلام السياسي إلا اللجوء إلي المزيد من العنف, ولو كان فيه مقتلها, وخروجها الكامل من المشهد, كجثة. ويبدو أن ذلك هو المصير الذي تندفع إليه الآن.